منذ فجر التاريخ والفقر يمثل ظاهرة ذات آثارٍ مختلفة، وإذا رغبنا في تدقيق أكثر خالِ من الفجوات فسنجد أن فترات طويلة مدرجة فيما قبل التاريخ الميلادي قد شهدت النتائج المؤسفة لتلك الظاهرة، فثمة تقرير أو إفادة فرعونية تعود إلى أربعة آلاف سنة ونيفٍ مكتوبة بالهيروغليفية في نقوش دقيقة ذات دلالة لغوية تشير إلى حوادث السطو وجرائم السرقة التي ارتكبها المتسللون من شبه الجزير العربية من جهة البحر الأحمر قرب تخوم دلتا النيل. ولم تكن شبه الجزيرة العربية تحمل هذا الاسم في ذلك الماضي البعيد. ووقتذاك عمد المتسللون -كما يورد التقرير القديم– إلى نهب أكوام الحصاد وقت القيلولة حيث الاطمئنان أكبر إلى غفلة الفلاحين المصريين النائمين بعد عناء نصف يوم من العمل. بيد أن ظروف السرقة كانت غير متساوية أمام جميع المتسللين، ففي أحوال أخرى اقترن النهب بجرائم القتل ثم الفرار بالغنائم من الحبوب وغيرها.
وبالرغم من الطرافة الذميمة لذلك الفعل الإجرامي الشائن في عصور ما قبل التاريخ الميلادي «ق م» فإن الباحثين يستدلون منه ومن أشباهه على الأسباب الكامنة. والأمثلة على ذلك كثيرة تتضمنها المدونات القديمة والوسطى. وفي وقائع معينة كان الفقر يتخذ اتجاهات سلوكٍ أخرى ذات نتائج مروعة حيث نطاق الإيذاء أكثر اتساعاً.
ويعد «الهكسوس» بأسمالهم وشرهم وفقرهم المُدقع مثالاً بارزا لتلك الاتجاهات الواسعة المؤذية حين اجتاحوا وادي النيل ومكثوا الفترة يمتصون خيراته إلى أن طردوا.
و«التتار» أو المغول – من جانب آخر – يدخلون في نفس التصنيف كأشرار في الدرك الأسفل من الفقر عاشوا في الضنك والفاقة على سفوح الجبال وبين صخورها الوعرة وفي وديان آسيوية لا زرع في أديمها ولا ضرع يتناهبون ويقتتلون إلى أن جمعوا شراذمهم الجائعة الشريرة بزيها المنفر من جلود الماعز، وقد بالغ بهم الطمع آنذاك مداه فداهموا بلداً مستقراً ونفذوا إلى قلبه العامر بخيرات ذلك الزمان وحرقوا مقتنيات «بغداد» القديمة من الكتب بل صنعوا من تلك المخطوطات النفيسة التي لا تقدر بثمن جسوراً بين ضفتي نهر «دجلة» وضفتي نهر الفرات وداسوها بأقدامهم الهمجية الوحشية أثناء العبور . ووراء كل ذلك نرى شبح الفقر ماثلاً بدمامته ينبئ الباحثين بأن النهب والسطو المسلح وجملة من الحروب النائبة في الزمن كانت بسببه، فحيثما تقع مدنيات وحضارات غنية مستقرة تلوح وطيدة الأركان ينمو العشب البدائي حولها ويزحف نحوها منتشراً بتطفل آثم ليخرب خيرها واستقرارها وسلامها.
وعلى ذات المنوال سنلاحظ أن «طريق الحرير» الشهير في التاريخ كان باعثاً لاندلاع حروب كثيرة بسبب النهب والحيازة غير الشرعية اللذين يمليهما الفقر المجدول بالطمع والشر.
ونخلص من ذلك إلى أن الفوارق الحضارية الفاقعة حيث تتطلع المستويات الأدنى العقيمة التي لا تستطيع إنتاج شيء بل التي لا تعرف كيف تنتج أي خير مادي أو معنوي، وشتان بين المعنيين: العقم من جهة وإرادة الإنتاج من جهة ثانية. فنلقاهم يتجهون نحو جيرانهم الذين اغتنوا بكدهم ونتاجهم واستطاعوا إيجاد مستوى حضاري ينعموا في ظلاله بالرخاء والرفاهية، يتجه الأشرار صوب جيرانهم وكلهم حقد وطمع ورغبة في العدوان بعدما عجزوا عجزاً تاماً عن إنتاج الخير لأنفسهم.
وقد شغل الفقر كظاهرة اجتماعية وتاريخية ذات آثار وخيمة وعواقب مفجعة كل علماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة وأدلى المصلحون بدورهم جميع الدلاء المناسبة واستخرجوا عدداً من المعايير والمقاييس التي لا يخلو معظمها من القدرة على التطابق مع الحقائق الجارية. وتشمل هذه المعايير والمقاييس لدى علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة والإصلاح بعدين من التاريخ والمعاصرة، وفي خضم المعاصرة التي تحمل أصداء خافتة أو قوية لفكر القرن التاسع عشر تتبدى مشكلات المعاصرة الاقتصادية على نحوٍ مغاير، لكن عدة تصنيفات سابقة لم تتبخر تماماً حيث الفقر منبثق في كثير من الأحوال من ظروف الشر التكويني والأخلاقي، ويمكن فهم التكوين بالنظر طويلاً وبتؤدة إلى مجمل البيئات المنحطة الشريرة التي تفرز بلا هوادة نماذج من اللصوص والسفاكين وكل الخارجين عن شرائع الأمم المختلفة.
وتلك البيئات البشعة لم تؤخذ بقدرٍ كافٍ من الاعتبار في تحليلات القرن التاسع عشر – أو بالأصح في بعضها – حيث وضع الفقراء في كيسٍ واحد وتم إغراقهم في عطفٍ شاملٍ لا يتحرى التنوعات والبواعث الخفية وإلى جوار ذلك الفقر الشرير الذي كرس الحقد والحسد وأنتج الجريمة كحلٍ لأزمات أفرادهم أصلاً في وضعية انفصال تام عن شرائع السماء والأرض نرى بجانب تلك الأوساط الوضيعة -التي تكافحها الأولى بمختلف أنظمتها– نوعاً واضح السمات من الفقر الذي يستثير العناية والعزم الإصلاحي لأنه لا يؤدي إلى التناحر الاجتماعي ولا ينطوي على أيما حقد أو ضغائن بلا ضفاف. إنهم أناس عاديون شرفاء لكنهم فقراء وشيمتهم الطيبة والعمل بما يرضي الله ولا يخرج عن تشريعات المجتمع.
وفي هذا النطاق بالضبط يشتغل المصلحون وعلماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة في عصرنا الحديث متسائلين عن كُنْهِ الفقر وأسبابه وكيفية القضاء عليه، وعند عكوفهم الطويل المتجدد على تلك المسائل العويصة يكتشفون أموراً شتى، ويأتي في مقدمة تلك الأمور أن الفقر ينجم أحياناً –وليس في كل الأحيان– عن مظالم اجتماعية تتعلق بانعدام تكافؤ الفرص، وفي أحيان أخرى عن الاستغلال اللا إنساني في بلدان العالم الثالث بالذات، لكن تلك الحالات غير مطلقة كما يلاحظون، إنما ترتبط بوقائع كثيرة لابد أن يحددها القانون الإجرائي بوضوح على مستوى الأفراد –أي الحالات المتباينة– ويستخلص الباحثون المبادئ العامة بحذر شديد حول الاستغلال وانعدام تكافؤ الفرص وبقية الحالات ويدفعون بمثال المستويات المتدرجة داخل النسق الاشتراكي ذاته في مصنع أو مؤسسة إنتاجية ضمن نظام اشتراكي تتوطد وتنمو على أساس سلالم الكفاءات والتأهيل والاختصاص.
ومن هنا يبلورون أفكاراً جديدة حول دخل الفرد وبالتالي دخل الجماعة. وتَمُدُّ إحصائيات عدد السكان ونسبة الأمية والأوضاع الاجتماعية للمرأة أفكارهم العلمية في ذلك النطاق الواقعي الخالي من التعميم والميول الغامضة لمطابقة قسرية.
إن الفقر قبيح، والأقبح منه أن نعامله كلونٍ واحد يشكو بحنجرةٍ واحدة توجب حلاً واحداً.
ولا ريب أن آفاق المستقبل بما فيه من خطط تنمية أو مشاريع حرة سوف نضع التطور الاجتماعي العادل على طريقه الطويل، الصحيح، الهادئ.
_______________