في الكوشة وعكس كل الواقفين، أحس بأنني المستمتع الوحيد بالوقوف في الطابور، وذلك بسبب هوايتي في تقييد الأحوال ومراقبة الأفعال وردود الأفعال،
أحدهم يسأل: كم مازال؟
يجيبه الخباز بلكنة وبتجهم جزائريين: خمسة ادقايق.
اثنان خلف ظهري يتحدثان عن طرفين من أطراف الصراع..
أحد المتحدثين مؤيد للطرف الذي يسيطر على المنطقة التي تقع الكوشة في نطاقها، والآخر معارض له..
عرفت المعارض من محاولته التخفيف من حدة معارضته باستخدام عبارات من قبيل:
“إيه.. لكن….”
“هو معاه حق.. بس مش بالطريقة هذي”
“احنا ما قلنا شي.. لكن فيه أمور لازم تكون بالحسبان”
“هو كشخص معنديش عليه اعتراض.. لكن الجماعة اللي معاه زودوها حبتين”
أما المتحدث الآخر فقد كان يتحدث بكل حرية..
حرية اكتسبها من وقوعه في أرض من يناصره.
حرية جعلته يسب ويلعن الطرف الآخر دون مراعاة لشعور محدثه، دون أن يتمكن محدثه من إطلاق غيظه من عقاله.
سائل جديد يسأل: كم مازال؟
يجيب نفس الخباز الجزائري: خمسة ادقايق.
المتحدث المهزوم يحاول أن يضع حداً للحديث: أهم شي الوطن.
المتحدث المنتصر لا يريد أن يفقد لذة ونشوة الانتصار: الوطن ضاع بسبب فلان وفلان.
كاد أن يقول له: الذين تؤيدهم!
المتحدث المنتصر يصرخ في وجه طفل قادم: انت شن اللي نزلك من السيارة؟
الطفل: قالتلك أمي جيب حتى بريوش.
يجيبه بهدوء: باهي.
ثم تمتم بعد أن تأكد من ابتعاد الطفل: غير نلقولها حق الخبزة.
الخباز الجزائري يُعلن عن خروج الخبز وانتهاء خمسات الدقائق.
رائحة الخبز تؤكد صدق الخباز هذه المرة.
الجميع يتشبثون بأماكنهم ويعتدلون في وقفتهم، مع ظهور علامات الاستبشار والفرح على وجوههم.
الطابور يتحرك.
أخيراً.. أنا والخباز وجهاً لوجه.
امرأة جميلة تتجاوز كل الواقفين خلفي، لتأخذ خبزها قبلي.
خارج الكوشة سمعتها تقول لزوجها الذي كان ينتظرها في السيارة: الخضرة مفيهاش طابور.. انزل انت!.
ورأيت في وجه زوجها نفس علامات الانتصار التي رأيتها في وجه المتحدث قبل قليل.