استطلاع: خلود الفلاح
يقول الكاتب النرويجي ديفيد شيلدس في كتابه “جوع الواقع” الذي ترجمت بعض فقراته في عدد فبراير الماضي من مجلة “عالم الكتاب” بتوقيع المترجم أحمد شافعي والمخصص لإعلان موت الرواية: الرواية كنوع أدبي تحتضر، الشخصية الروائية والحبكة الروائية تحتضر، ولا حياة اليوم إلا للكاتب الذي يكفّ عن التخييل والتأليف. “العرب” طرحت وجهة النظر هذه على بعض الروائيين العرب فكان هذا التحقيق.
عندما طرحت على الروائيين العرب الذين شاركوا في هذا التحقيق عن “موت الرواية”، كانت الكلمة الأولى لكل منهم “لقد استفزني هذا الموضوع″. كما وجهت “العرب” سؤالا آخر وهو هل في المستقبل سنعيش زمنا يغادر فيه كتّاب الرواية العرب كتابة الرواية ويتفرغون لكتابة المقال مثلا.في البدء كانت الحكاية
تقول الروائية السورية مها حسن: لم أقرأ الكتاب المشار إليه، ولا أعرف في أي سياق جاء رأي الكاتب بموت الرواية. هل يقصد قوة الواقع وتفوقه على الرواية؟ فإذا كان هذا المقصود، فأنا أتفق مع الكاتب في جزء من هذا الكلام، لا القول بموت الرواية، ولكن ربما الحاجة إلى الانفتاح على أشكال سردية جديدة، تقترب أكثر من نبض الحياة المعاصرة، التي تجاوزت أحداثها في السنوات الأخيرة ما قد تنتجه المخيلة في قرون.
وتضيف حسن “ربما نتحدث عن رواية توثيقية، مطعّمة بالتخييل. أي مقاربة نوع متواجد ولكنه بقلّة، هو وسط بين الرواية التسجيلية البحتة، والرواية التخييلية. ثمة أعمال اقتربت من هذه المساحة، منها روايات السرد الذاتي، وهو تيار مهمّ جدا، وغير مطروق بكثرة في الأدب العربي، بسبب المخاوف من التحدث عن الحياة الشخصية للكتّاب، وما قد ينبثق منها من تأثيم أو أحكام اجتماعية، تتدخّل في الأدب.
لكن في جميع الأحوال، لا يستطيع الأدب أو الفن عموما ركل الرواية، ففي الأصل كانت الحكاية، وقد نشأ الكون ضمن حكاية، فبالعودة إلى سير الأولين، بدءا من حكاية آدم وحواء، والنصوص الدينية، أو الوضعية المتطرقة لأصل الكون، كلها قائمة على الحكاية. لذا فالحكاية هي الأصل، وحتى سير الحروب والكوارث الكبرى، لن تنجو من حاجة إلى الحكاية”.
وتؤكد مها حسن أنها كروائية، متعصبة قليلا للرواية، لا تتخيل الحياة تجري خارج الرواية، بل تعتقد أحيانا أن العيش الروائي بما يتضمنه من تفاصيل لشخصيات ومكان وزمان وسرد وانفعالات وأحداث، يمكنه هو، على العكس من القول باحتضار الرواية، نسف الواقع، والاكتفاء بالرواية.
عصر التراجيديا
يفتتح الروائي الجزائري بشير مفتي كلامه بأنه لم يطالع الكتاب حتى يعرف الحجج التي يقدمها ديفيد شيلدس على ما يعتبره موتا للرواية، ويضيف “أعتقد أن الإعلان عن الموت في الثقافة الغربية الحديثة كان دائما نوعا من التحذير لا غير، ولا يمكن أن يقصد به الموت الحقيقي، أي نهاية الرواية، وهي تعرف كل هذا الحضور القوي والمدهش في كل أنحاء العالم حتى بات متعارفا عليه أنه عصر الرواية بامتياز وهي تشهد إقبالا أكبر حتى عند شعوب لم تكن الرواية فيها بمثل هذه القيمة والمنزلة، وننظر إلى العالم العربي مثلا، فيكفي ظهور جوائز تثمينية مثل البوكر وغيرها، حيث شاهدنا كيف بعثت الروح لدى الكتّاب والقراء على السواء”.
وفي ختام رأيه يوضح مفتي: طبعا الرواية تتحول وتتعايش ربما مع منظور العصر الجديد، والواقع الذي تعيش فيه، وهنالك من يستاء من هذه التحوّلات وهو يحاول أن يفرض نمطا أو صورة محددة للرواية وهي تنقلب على ما كانت عليه وقد تموت صورة ما للرواية أو شكل معين وبالفعل قلة ربما ستغامر في كتابة روايات على شاكلة “عولس” لجويس، أو “البحث عن الزمن الضائع” لبروست، أو ستنعدم هذه التجارب لاحقا لأن الزمن تغير، زمن القارئ وزمن الكاتب، وهذا لا يعني الذهاب نحو البساطة والسهولة وهي تنتشر بالفعل حاليا، ولكن ستولد أنماط كتابية جديدة وهي ما تخيف البعض وهي تخيفنا نحن كذلك عندما تنجح جماهيريا روايات بسيطة من نوع “بنات الرياض” وغيرها. المهم أني لا أصدق موت الرواية وأعتقد أن أمامها عصرا ذهبيا جديدا. خاصة وأن الرواية ارتبطت بالتراجيديات وعصرنا يعج بها.
تجديد الصيغ الكتابية
الروائية التونسية آمنة الرميلي قالت: سيكون من المضحك أن نتوقّف عن كتابة الرواية لأنّ كاتبا قد قال: توقّفوا عن كتابة الروايات. وأضافت: “ديفيد شيلدس” من الكتّاب الذين يضعون الأجناس السّردية على محكّ التاريخ، ويعتبر أنّ الجنس الأدبي يولد ويعيش ويموت ككلّ الكائنات الحيّة وهذا معروف عند منظّري الأجناس الأدبية سابقا ولاحقا. وإشارته إلى موت الرّواية تتنزّل في دعوته إلى تجديد الصيغ التعبيرية الأدبية.
وأوضحت الروائية آمنة الرميلي: “شيلدس” يقود موجة التجديد الأدبي في بلاده حيث بدأت الحدود بين الأجناس تتآكل وتمّحي وتتداخل. الرّهان اليوم لم يعد الوفاء لحدود الجنس رواية أو قصّة أو خاطرة أو قصيدة أو مقالا، وإنّما في التحرّر من تلك الحدود وصهرها والتقاطع بينها. والرّواية ليست جنسا ثابتا وإنّما هي شكل سرديّ مفتوح على باقي الأشكال وبإمكانها مزيد المقاومة ومزيد البقاء على قمّة الأجناس التعبيرية الأخرى. أنا لا أومن بالدّوام، وعلى الكاتب أن يغيّر أدواته ويطوّرها إن كان مقتنعا بذلك.
التعميم مرفوض
الروائي السوداني أمير تاج السر اعتبر أن هذا القول استفزازي وأضاف “في الحقيقة لقد دأب كثير من الناس على إطلاق النظريات التي لا تعني شيئا على الإطلاق، فما معنى موت الرواية واحتضار الشخصية الروائية؟ نحن حين نتحدث في هذا الموضوع لا نعني رواية بعينها ولا مؤلفا بعينه ولا فكرة بعينها، وبالتالي لا يمكن تقبل هذا الطرح.
الرواية تتأرجح بين الجيّد والرديء، بسبب زيادة عدد كتابها، لكن في كل مرة يشرق نص رائع، يخلب الأبصار، وإذا توقف جيل عن الكتابة أو مات كُتابه، جاء جيل جديد، يحمل مشاعل جديدة وأدوات جديدة ينقب بها، وتستمر حياة الكتابة. بالنسبة إليّ لا أظنني سأترك الكتابة باختياري ولكن إن تركتني هي أكون سعيدا لأنني سأتحرّر من أسر طويل.
رواية واحدة تكفي
يقول الروائي الليبي أحمد الفيتوري “لم أكتب لأكون روائيا ولا حتى كاتبا، كتبت هكذا، من خلال ما أقرأ يتمظهر شيطان الكتابة، فليس ما أكتبه رواية تطمح إلى أن تكون رواية بل إلى السرد، باعتبار أن الحياة سرد، حتى أنه ليس ثمة توق إلى النجاح بل إلى الحياة، كما أتنفس كتبت، بل وبكسل يستأهل المديح، ولهذا فالكثير من الروايات التي قرأتها هي إعادة عزف للنغمة على آلة أخرى، تولستوي هو روايتان كما ماركيز، بل ثمة من له رواية واحدة تكفيه: فساد الأمكنة لصبري موسى مثلا”.
ويتابع الفيتوري قوله “أما عن موت الرواية فقد سبقها من قبل موت المؤلف، وقبل قتل ناتالي ساروت وآلان روب غرييه الحبكة الروائية والشخصية الروائية في ما عرف بالرواية الفرنسية الجديدة في المنتصف الثاني من القرن العشرين.
ولهذا سأقرأ ما كتب ديفيد شيلدس باعتباره مرثية ليس للرواية ولكن لرواية كرسها النقاد أو القراء أو المخابرات على السواء، لكن الرواية التي لا تحمل من الرواية إلا السرد فلن تموت أو على الأقل ستحيا حتى أموت”.
_______________
نشر بصحيفة العرب