المقالة

عندما يتحول الموت الى هدف الانسان في الحياة

مفارقة من مفارقات الظاهرة الارهابية الناتجة عن التطرف الديني، ودخول العالم في حرب ضدها، هي تلك التي تبدو واضحة فيما يتواتر من اخبار عن الحجم الجسيم لخسائر التنظيم الداعشي، والفاقد اليومي في الارواح الذي يصل بالمئات، تحت قصف الغارات وما ترميه من حمولات مهولة من القذائف والنيران، وما يموت تحت نيران الجيوش الارضية الزاحفة ضد الدواعش من جيوش الاكراد والصحوات والقبلية والجيش النظامي العراقي، حيث يسقط تحت قصف مدافعها المئات من قتلى الدواعش، يضافون الى قتل الغارات الدولية، ومع ذلك لا نلحظ هروبا من جيش الدواعش ولا انهيارا في قواتها، مع انها تعتمد في كل مقاتليها على اناس جاءوا بارادتهم الحرة متطوعين للقتال في صفوفها، هذا جانب من المفارقة، والجانب الاكبر هو ان الدولة الداعشية تستقط مزيدا من الانصار القادمين من تلقاء انفسهم، ومن اقصى مناطق الارض، للتطوع في اقتحام هذا الجحيم الذي تعيشه قواتها، مقاتلين في صفوفها يتلقون هذه الاهوال القادمة من الارض والسماء، وتنقل لنا نشرات الاخبار كل يوم عن دفعات يتم ضبطها في مطارات هيثرو  واورلي وروما، وغيرها، ممن يريدون اختراق القوانين التي تحرم على مواطني هذه الدول الالتحاق بالدواعش، ويسعون رغم ذلك  للوصول تسللا وتحاويلا وهروبا اليها، من اجناس مختلفة، عرب وعجم وشرق وغرب، ربما تجمعهم فقط عقيدة التطرف الاسلامي، ومهما تعدد الاطروحات التي تتحدث عن الدوافع والاسباب الكامنة وراء ظاهرة التطرف، وكيف جاء ومن اين جاء، والحاضنة الاجتماعية التي ينمو فيها وتلك التي تغذيه فان هناك حقيقة من حقائق التطرف والتوحش الاجرامي الناتج عن هذا التطرف، وهي حقيقة موجودة وتزداد تاكيدا ورسوخا وتتجلى كدافع من دوافع الالتحاق بهذا التنظيم هي الرغبة الاكيدة في الموت. وبتعبير اكثر وضوحا في هذا السياق، وهذه الحالة، ان الموت قتلا، وبهذا الشكل الشنيع الذي يحدث تحت قنابل النار، بدل ان يكون رادعا، صار في هذا الاطار، عامل اغراء وغواية، ونقطة استقطاب وترغيب، في الالتحاق بداعش وليس الهروب منها، وهي مفارقة تحيلنا الى بيت شهير من ابيات الشاعر المتنبي يقول:

كفى بك داء ان ترى الموت شافيا
وحسب المنايـــا ان يكــن امانيـــا

والشاعر هنا يصف حالة من الحالات التي تمر بالبشر، وتجعل الانسان يصل الى اقصى مراحل اليأس والنقمة على الحياة، وتفضيل الموت على ان يبقى عائشا فيها، بسب ازمة يصعب الخروج منها، او انه واجه شرطا حياتيا انسانيا موغلا في بشاعته ومجلبا للالم والحزن الى حد يفقد معه الانسان شهية الحياة، فهل نستطيع ان نجد في بيت المتنبيء، الذي قاله منذ اكثر من الف عام، مدخلا لفهم حالة الانسان الداعشي التي تتصل بالحياة والموت؟

ويمكن في هذا السياق ان نرصد اربع حالا، لتفسير الاصرار العنيد على الموت، الذي تميزت بها نفسية الانسان الداعشي:

الحالة الاولى هي التي لابد ان شاعرا حكيما، ومحاربا شجاعا، مثل ابي الطيب المتنبي، يتقصدها، وتأتي في سياق عام طالما اهم بوصفه، يتصل بمصائب الدهر وكوارثه، والنوائب والفواجع التي عايشها بسبب ظروف عصره ومجتمعه والتي توجزها هذه الابيات الثلاثة:

رماني الدهر بالارزاء حتى     فؤادي في غشاء من نبــــال
فصر اذا اصابتني سهـــام     تكسر النصال على النصال
وهان فما ابالــــــي بالرزايا     لاني ما انتفعت بان ابالـــي

وعبارات اخرى وردت في قصائد اخرى مثل قوله: ولكنني للنائبات حمول… وتصل هذه العبارات الى اقصى درجات اليأس والالم والاحباط،  في هذا البيت الذي يصبح فيه طلب الموت امنية، من الاماني التي ينشدها القلب… وربما في مثل هذا الاطار يمكن الحديث ايضا عن شظف العيش وظروف الظلم الاجتماعي والعوز والفاقة والمسغبة التي تدفع ضعاف النفوس الى البحث عن حل في الموت  هروبا من كوارث الحياة.

الحالة الثانية، ثقافية، دوجمائية، سيطرت فيها على العقل افكار شاذه، شائهة، وجدت سبيلا الى عقل هذا الانسان، عن احتقار الدين للحياة، واكبار الشهادة والموت في سبيل القضية، وتفضيل الاخرة على الدنيا، وهو تفكير عاطل باطل، اذا جاز مثله في فجر الاسلام وفي مواجهة المشركين، الذين يحاربون النبي وصحبه، فهو هنا ياتي خارج زمانه ومكانه، وياتي وقد تعرض للتزييف والتشويه والعبث، من اجل استخدامه في اغراض دنيوية لا علاقة لها بالدين والايمان وانما بمختبرات التآمر وتزييف العقل في غرف المخابرات الدولية، للتغرير بالشباب وودفعهم الي التهلكة.

الحالة الثالثة، حالة مرضية، هي ذاتها التي اوصلت آخرين في العالم، الى الانتحار، وهي امراض نفسيه متعددة، ينتج عنها ما يعرف في علم النفس بالميول الانتحارية، الا ان هذا الذي استقطبته داعش، يحاول خداع نفسه، والتغطية على مرضه، ووضع نفسه في حقول الموت والهلاك، وكأنه يلبي نداء من السماء، وليس نداء من عقله المريض، وذاته التي تطلب تدميرها، والعقد الانتحارية التي استحكمت في تفكيره وسلوكه.

الحالة الرابعة، واجد انها اكثر الحالات شيوعا في الظاهرة الارهابية الداعشية، تنبع  هي الاخرى من معاناة مرضية، ولكنها ليست مرض الكآبة، والشيزوفرينيا، والبارانويا، الدافعة في احيان كثيرة الى الانتحار، ولكن حالة اخرى مختلفة تمام الاختلاف،  لا اسم لها غير “الميول الاجرامية”، جبلة في النفس البشرية، بدأت لدى بني آدم منذ بدأ الخليفة متمثله في احد ابناءآدم ابو البشر، هو قابيل قاتل اخيه هابيل. يخرج صاحبها الى الحياة منذ لحظات مولده حاملا لهذه الجرثومة، الناغلة في دمه، وهي جرثومة قتلها العلماء بحثا ودرسا، دون قتلها حقا او القضاء عليها، تتحدي كل ما وصلت اليه الفتوحات العلمية في مجالات الطبيعة البشرية وعلم النفس وتحليل السلوك الانساني،  وستعيش هذه الجرثومة ما كان هناك بشر فوق الارض، وقد استهدفت الدراسات عددا من السفاحين ممن يسمون في العالم الغربي  serial killer حيث لا تخلو فترة من الزمان من وجود مثله، تقضى عليه الشرطة في النهاية ليظهر غيره، وتصل ضحايا مثل هذا المجرم بالسليقة والفطرة، الى ستين وسبعين ضحية قبل القبض عليه، وهو لا يملك سببا ولا دافعا الا الشهية للقتل، وهي شهية تطالب بالمزيد، وكلما كثر عدد الضحايا، زادت لديه هستيريا الاجرام وجنونه، وكان اخر هؤلاء السفاحين في لندن يختار ضحاياه من بنات الليل، لانه يسهل اصطيادهن والايقاع بهن وسحبهن الى مكان مظلم، غير مطروق من الناس، يوفر له  الامان والهروب بعد ارتكاب جريمته.

صاحب هذا الميل الاجرامي، يعرف انه سيقع في النهاية،  في يد العدالة، وسينال العقاب الذي يستحقه، ولكنه يسخر مهاراته الاجرامية في كسب الوقت، لكي يتيح لنفسه قتل اكبر عدد من الضحايا.

ويبدو واضحا ان الداعشي المنتسب الى هذا الفصيل، من حاملي جرثومة الاجرام، هم الاكثر، ويظهر ذلك من خلال التوحش الذي يمارسون به عملهم الارهابي، والتباهي الذي يتبدي في سلوكهم وهم يرتكبون جرائمهم ويذبحون ضحاياهم، وروح الاستعراض التي نراها بادية في افلامهم، وهم يقفون امام الكاميرا، كانهم يؤدون عملا من اعمال الحب، وطقسا من طقوس العبادة، لحظة نحرهم لانسان بريء، رجلا كان او امرأة.

وما يقدمه لهم تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، ليس فقط فرص اشباع الميل الاجرامي، وانما اكثر من ذلك، وهو الغطاء المقدس لهذا الميل الاجرامي، فهو هنا يضفي على اجرامه، الذي يعرف قبحه وبشاعته وانه عمل ينتمي الى الدرك الادنى من الخسة والذناءة والسقوط الانساني، ثوبا من الاحترام الكاذب، ليس فقط امام العالم، وانما امام نفسه، فهو بانتمائه الى داعش، يحارب احتقاره لنفسه الذي يتولد لديه بسبب تشوهاته وعاهاته النفسية، التي صنعت له ميله الاجرامي، بان يعطي لهذا الميل صفة كاذبه، هي انه يؤدي رسالة  مقدسة، ويجد نفسه منخرطا في حرب مع الله، كما يمكن ان يوهم نفسه، وليس حربا يخوضها تحت راية ابليس عدو الله، كما هي الحقيقة.

الداعيشي  من هذا النوع، لا ياتي طالبا للموت، ولكن الموت يحدث هنا باعتباره ثمنا لابد ان يدفعه، لمتعة لا يستطيع  ان يحيا دون ممارستها، وهي قتل الاخرين.

______________________________

* سبق ان نشرت هذا المقال في صحيفة “المقال”.

مقالات ذات علاقة

عمر أبو القاسم الككلي

بشير زعبية

غياب محمد حسن يوم الفراغ السياسي العظيم !

جمعة عبدالعليم

الإعلام المعاصر ودوره في نشر ثقافة الرأي الآخر

ميلاد عمر المزوغي

اترك تعليق