عندما كنت أشاهد تسجيلات الحروب العالمية الأولى بالأبيض والأسود, كنت أعتقد أنها ستكون الحروب الأخيرة للبشرية بعد الدروس التي تلقنتها الإنسانية من فداحة النتائج الكارثية لهذه المواجهات الدامية ومع نضج المجتمعات الإنسانية في المراحل الأخيرة, لكن هذا التفاؤل المبالغ فيه يسقط وأنا أشاهد حرباً شبيهة بالحرب العالمية الثانية, لكنها بالألوان وباستخدام أحدث ما وصله العقل البشري من تقنية وألاعيب, وستظل هذه الحرب فريدة من نوعها على مر التاريخ, فهى بدأت بإرسال لجان للتفتيش تحت ستار الشرعية الدولية لتقدم معلومات كاملة للغزاة, وللمرة الأولى نرى منظومة جاسوسية معلنة ذات شرعية دولية تعمل وفق حصانة سياسية وبخدمات يقل نظيرها من طرف الدولة المستهدفة, ولتقوم أىضاً بتدمير الصواريخ العراقية التى قد تشكل خطراً على الغزاة, لتنسحب الأمم المتحدة بعد إنهاء هذه المهمة تاركة الشعب العراقي للجوع ونيران أعتى القوى, وهذا يعكس توجهات مايسمى بالنظام العالمي الجديد بخصوص منظمة الأمم المتحدة من حيث آلية عملها, أو وجودها أساساً, فارق آخر في هذه الحرب وهو الإصرار الغريب من الولايات المتحدة عليها وتحدي الرأي العام العالمي ومعظم دول العالم والقانون الدولى مما يطرح سؤالاً ملحاً عن سر هذا الإصرار الذى لم يسبق له مثيل, وهى هنا تؤكد على عقدها التاريخى الذى يتمثل في الدم مقابل النفط, ولكن لماذا العراق ? إن العديد من الدراسات الجيوستراتيجية تظهر أهمية النفط العراقي الذي يضمن الأمن الطاقي للولايات المتحدة لقرن قادم كما يضمن هيمنتها الاقتصادية على الدول الصناعية لثلاثة قرون قادمة, وهذا ما نوه به جيمس بيكر وزير خارجية حكومة بوش الأب مراراً حيث بروز خطر هذه الدول المتمثلة في اليابان وأوروبا الغربية بزعامة فرنسا, بعد سقوط الاتحاد السوفياتي, وقال لابد من وجود منفذ على نفط الخليج الذي يشكل ثلثي الاحتياط النفطي العالمي, وتأتى هنا أهمية العراق من كونها بوابة التحكم التاريخية على كامل المنطقة ولانخفاض تكاليف استخراج نفطها مقارنة بدول أخرى منتجة, إن سيطرة أمريكية على النفط العراقي – كما تقول مجلة اقتصادية متخصصة – من شأنه أن يؤدي إلى انهيار منظمة الأوبك, وإلى تبعية مضاعفة للدول الصناعية للاقتصاد الأمريكى, خصوصاً ونحن نعلم مدى العقود النفطية المبرمة بين العراق, وفرنسا وروسيا, وهما الدولتان اللتان هددتا باستخدام الفيتو ضد الحرب على العراق, لقد كانت اللجان تفتش عبثاً عن أسلحة الدمار الشامل, وهى تمر إياباً وذهاباً على آبار النفط دون أن تعلم أنها المقصودة في اللغز الأمريكى, باعتبارها فعلاً أسلحة الدمار الاقتصادي الشامل الذى للأسف لم يستخدمها العرب في حربهم الاقتصادية المفترضة, لذلك بنيت هذه الحرب على جملة من الأكاذيب التى تتعلق بالأسلحة والديمقراطية ومكافحة الإرهاب مما يجعلنا لن نستغرب أيضاً هذه الأكاذيب الإعلامية التى ترافق هذه الحملة العسكرية التى تخطط لها وتقودها منظومة لا أخلاقية اتسمت سياساتها دائماً بالأكاذيب, ليتفرج العالم مذهولاً على الحرب الأولى الملونة, بالدم الأحمر والنفط الأسود والعيون الزرقاء في أرض سومر, وبالضحكات الصفراء لقادة العرب في مؤتمر القمة.
_____________________________________
صحيفة الجماهيرية.. العدد:3961.. التاريخ:4-5/04/2003