منذ بداية الثمانينيات وتحديداً سنة 1982م أصدر الدكتور محفوظ أبوحميدة مجموعته الأولى تحت عنوان (يبتغيكِ الفؤادُ قريبة) التي احتوت على اثنا عشرة نصاً ذكر في المقدمة أنه كتبها في بواكير تعلقه بالكتابة حين كان طالباً بالمرحلة الثانوية بمدرسة سوق الجمعة الثانوية وخلال دراسته بكلية الطب. ومن الواضح أنه لم يؤكد تجنيسها الفني الدقيق بين “الخاطرة” أو “المحاولات الشعرية” حيث يقول في المقدمة القصيرة التي كتبها في شهر أبريل 1980م أي قبل سنتين من صدور المجموعة (هذه الخواطر المدونة على صفحات هذه المطبوعة البسيطة محاولات شعرية نشرت بأكملها قبل عدة سنوات على صفحات المجلات والجرائد الصادرة بالجماهيرية، وكنتُ يومها بالمرحلة الثانوية أو السنوات الأولى من دراستي الجامعية.)
ويضيف قائلاً (وقد كان بالإمكان إضافة شيء ما إليها أو حذف جزء منها أو إجراء تعديل عليها.. غير أن للكلمة براءة وشخصية يجب أن تحترم، وللحرف قدسية ينبغي الحفاظ عليها تسجيلاً لمرحلة معينة وانعكاساً لواقع ما. لذلك أدفع بها كما هي لعلها تتمكن من التحليق في أوساطنا الثقافية.)
وقد تسلسلت نصوصه كالتالي: (يبتغيكِ الفؤاد قريبة، نوّارة عشق، في عينيكِ تطيب الجلسة والأشواق، عيناك والحزن المرصّع، لحظة وداع، وأزعم للنفس أنك قربي، سفر الخاطر، سيدة البسمة والصد، أهواكِ ولكن !، واقاهرتاه بئس الصبر!، أنفاس طائر منهوك، مداخل المدينة)
وتنتمي نصوص الدكتور محفوظ أبوحميدة إلى شعر الحداثة الذي وجد فيه براحاً للتعبير عن الواقع العروبي ورسم تطلعاته القومية ونسج أحلامه الشخصية بكل ما تملكه اللغة من حروف وكلمات تعزف الشعر بحلته وأنماطه الجديدة. ففي نصه العتبة (يبتغيكِ الفؤادُ قريبة) يخاطب طيف الحبيبة قائلاً:
(يا عصفورة شوق تبحر
في عينيك الساهمتين
فاض حديث الوجد عليك
فهل تدرين؟
تأخذني أطيار الشوق
لبلاد لم تخلق بعد
أفقد ذاكرتي..
أحزاني
أعبر باسمك نهر الوجد!)
أما في نصه (عيناكَ والحزن المرصع) الذي يهديه إلى روح الزعيم العربي جمال عبدالناصر فهو يستحضر الوطن بأسره ليبثه قلقه وحزنه جراء الخيبات الوطنية والقومية:
(يا وطناً في الصدر إليك
ملء الحلق وغص مرارة
أشرعة الحزن بلا لون
بلا ختم – حتى – أو شارة
أشرعة الحزن
في عينيك …
أعلى من كل منارة
منذ الميلاد
في عينيك الفرح حداد
ألغى الزمن
وفاق المحن
وجاوز كل الأعداد
حزنك كالليل إذا عاد
لغز من يكشف أسراره
يا وطناً..
في الصدر إليك..
حبس الشوق رهين إشارة)
وتتجسد حالة الصدمة واليأس في نصه (واقاهرتاه بئس الصبر) فنجده يعيش إحباطاً قاسياً من الموقف المصري تجاه القضايا والمبادئ والشعارات العربية فيقول:
(الآن عرفتُ بأني وحدي
أتشهى يوماً للنصر
فتحتُ جراحي بحد السيف
وذقتُ مرارةَ كأسِ الغدر
الآن عرفتُ
فلا أحدٌ يغذيني بالصبر!
الآن علمتُ
بأنَّ النيلَ تيبَّس جُبناً
ماتت قاهرةُ المعزِ
وما عادت مصرُ هي مصرُ!)
وفي المقابل نجد الكثير من الغنائية والايقاع الرقيق في نصه الجميل (سيدةُ البسمة ِوالصدِّ) الذي تتراقص فيه اللغة في رسالة عاطفية وجدانية شفافة تتسم بالرومانسية حين يغني نصه:
(أكثرُ من عامٍ يا قمري
وأنا في حيرةٍ من أمري
أسألُ قلبي… أتهواها؟
وأمدُّ يدي إلى صدري
أتحسَّسُ جرحي … أدفنه
فيعود يغالبني دمعي..
سيدة البسمةِ والصدِّ
أستلقي.. أستلقي على صدري
وانطلقي لحناً يشجيني
يُنسيني الأَوْبَةَ لِلقبرِ
وَانْسَكِبِي فِي كَأسِي خَمراً
تتقدُ أحرُّ منَ الجمرِ
وانزرعي في صدري.. وردةً
تحضنُها نسماتُ الفجرِ
وانبعثي في نفسي ضوءاً
كشُعاعِ البدرِ إذا يسري
ما عاد العالمُ يعنيني
منذُ تملّكتِ أمري !!)
وقد تناول أستاذ الأدب العربي والنقد الدكتور عبدالإله الصائغ بعض نصوص شاعرنا الدكتور محفوظ أبوحميدة في مقالته حول الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية، كما ضمنه الدكتور عبدالله مليطان معجمه للشعراء الليبيين الذين صدرت لهم دواوين شعرية مبرزاً سطوراً من سيرته الذاتية التي تضمنت الكثير من التجارب الصحفية والنقابية وإعداده وتقديمه لعدد من البرامج الإذاعية (صفحة 435).
رواية (عاصفة الندم):
بعد كل ذاك العمل التراكمي والهوس بالشعر والصحافة والإعلام إضافة إلى تخصصه المهني كطبيب وأستاذ جامعي في مجاله العلمي، ها هو الدكتور محفوظ أبوحميدة يصدر روايته الأولى (عاصفة الندم) التي جاءت في حوالي أربعمائة صفحة من الحجم المتوسط تتصدرها صورة فوتوغرافية ليديّ عروسةٍ مخضبتين بالحناء فبدت عتبة الغلاف تحمل الكثير من الجاذبية والغواية لولوج الرواية والبحث عن علاقة هذه الصورة الفوتوغرافية المختارة ودلالاتها بالنصّ الروائي الذي تتصدره؟ وكذلك بعنوان الرواية (عاصفة الندم).. فما علاقة الحناء بالعواصف وما علاقة العواصف بالندم؟
جاءت رواية (عاصفة الندم) في ثلاثة أجزاء متباينة الطول وجميعها ذات فصول مرقمة ترقيماً عددياً حيث ضم الأول اثنين وعشرين فصلاً بينما الثاني خمسة عشرة فصلاً وكذلك الجزء الثالث الأخير. وإن كانت صفحات الرواية اكتظت بالسرد والنثر فقد تصدرت بعض فصولها أبياتٌ شعرية، وأخرى في ثناياها، لعدد من الشعراء العرب على مر العصور بداية من المتنبئ وعنترة والأخطل والفرزدق وأبو نواس وأبوتمام وطرفة بن العبد والعباس بن الأحنف وابن الرومي والبحتري وجبران خليل جبران ونزار قباني وكذلك غناوة العلم!! مما يؤكد هيمنة الشعر على روح المؤلف وعدم قدرته على الانفكاك منه في عمله السردي. ومن الجوانب الفنية التي لاحظتها، حين تصفحت الرواية على وجه السرعة، في ثنايا فصولها هي إمكانيات المؤلف التعبيرية بالسرد الوصفي وقدرته على تكوين الصور الفنية ورسم شخصياته من البيئة الزمنية ذاتها التي تلعب فيها الشخصيات أدوارها، كما أن الحوار بالعامية الذي انزرع في ثنايا السرد بعث الكثير من الحميمية والتصاق القارئ بالشخصية والحدث.
(عاصفة الندم) رواية دسمة جاءت بعد خبرة طويلة لمؤلفها الدكتور محفوظ أبوحميدة، وأزعم أنه اختارها لإيصال رسالة تحمل الكثير من المحبة والعشق للوطن وللأهل والناس، وسعيه لإهدائهم فيوضاً من البهجة وفي نفيس الوقت دفعهم لإدارة محركات عقولهم والتفكر والتدبر في مجريات الزمن بجميع تصنيفاته الماضي والراهن والآتي خاصة وأن إهداء الرواية خصّ به روح والده الراحل (الذي كان يرى الدنيا محظ هباء).
الاثنين الموافق 21 أبريل 2025م