منزلة المعقول؟
المثقف السياسي -في كثير من الأحوال- يهوى الإنتقال اِنسيابياً كطائر مُحرّر من اديولوجية إلى أخرى وفي منتهى السلاسة والسهولة والثقة الكاملة بل وبطريقة ذكية ولا تأتي مصادفة فهي تخضع للحساب والتقييم وتضرب في كلّ المواضع الكثيرة وهي مفارقة قادرة على الخلاص من قيد القنوط الأديولوجي القديم لفقد بريقه جاذبيته تنطلي على السّذج والطيبين ، وبقدرة عجيبة وفراسة خداع وتزوير تستمر في وجودها اليومي المُخاتل للعقل حيث تُنزل اللا معقول منزلة المعقول سليل القدرة الغامضة على الإندهاش العميق المدبب الأطراف المتمثل في التحريف الفكري لنسق القيم والفكر الذي التزم به في الماضي ، أكثر من ذلك أنّها لا تتوقف عن البحث عن نوع من البطولة عبر تقلب الأيام والأحداث بهدف على حسب زعمه وتحوله الأديولجي مواكبة العصر . في الأخير حواراته لم تغيّر الواقع الذي نعيشه فرغم تحوله من ايديولوجية إلى أخرى إلا أنّه لايزال يفكر بطريقة إنتهازية رغبة في التفاخر والأستعلاء.
التنقل الذهني
فهذا النمط من مثقفي السياسة لديه براعة لا يجاريه أحد فيها للتنقل – ذهنياً ومهنياً- من كلمة فضفاضة إلى أخرى متناقضة معها وقد تكون غامضة وغير معروفة وباطنها أشد تعقيداً، فإذا كان في فترة من الفترات يسارياً فهوهناك مع “الكادحين” مدافعاً عن “دكتاتورية البروليتاريا” بمعايير رؤيته الأيديولوجية في مرحلة ماضية حالماً بسيادتها في مرحلة تاريخية يسميها “مرحلة التحرر الوطني“ المرحلة التي دافع عنها كثيراً بفكرٍ مقطوع الصلة بمجتمعه ، أما إذا انتقل إلى الصف اليميني بأي معنى من المعاني نحو الأمام الزمني فهو مع ”الرأسمالية” مدافعاً عن “ليبرالية المتنورين” ببعض من الكياسة والتماسك على نحو تطهري كالباحث بين الأنقاض عن ساحة للبقاء.
صورة الصورة
للمثقف السياسي القدرة على التطابق السعيد بين صورته القديمة وصورته الجديدة وبحرفنةٍ يسارية تبشر بالخير السياسي والإجتماعي والعدل الريعي و التثويرالثقافي وبقفزة ليبرالية يتبعها عناق يميني، متحدثاً باِسمها وعلى امتداد الساحات الليبية السياسية منذ التعلم من حكمة القنَّاصين المُتمرسين في الترحال من اديولوجية إلى أخرى هُمّها الأول الوثب نحو المغانم والتفوق على الناس، غير أنّ الفارق صعب الإندثار لا يظهر إلا في شكله الخارجي، فكلاهما يُعتنق من أجل الزيف والتزوير والنفاق السياسي وخداع الذات وخداع الناس تشبثاً بالتحريف والتشويش قرين الجمع بين التزويق والغموض.
شمائل اللفظ
إذا كان اللفظ الفضفاض، خارج المجال المعرفي، ولعقود طويلة من الزمن، والمُتنكر للأسئلة الشاقة و الإعتراف بالعجز بالفشل في بناء الدولة ، يظهر في وقته ساعة اعتلال الرؤية ويسود بفضل الإعتقاد الثابت فإنّه ينهار في وقتٍ لاحق ليحل محله لفظ فضفاض آخر ليس صعب المنال فقد يتصل في موضع وينقطع صراحةً في مواضع أخرى. ومن الحق في هذه الحالة أنْ ينتهي اللفظ الجديد مع صنوف خياله بكيفية طبيعية عادية من قاموس الناموس المثالي لأنّه يقع ضحية الزمن المتراكم المتوالي المتقلب في الفضاء الثقافي وساحة التنافس التنظيري وحواراته وأسئلته، فكلما إزداد اللفظ بريقاً في عبارات تجريدية خرافية على غرار “دولة حديثة عصرية دستورية” لوصف أيّ حقبة تاريخية ليبية فكلما زاد سطحية تتشيع للإفراط بالتمسك بماضٍ لم يكن عصرياً أو دستورياً.
لهب النوائب
يحدث هذا في زحمة النوائب السياسية وفي تدفقٍ عاصفٍ يحجب على المجتمع نعمة المعرفة ومعاملة الحياة برؤية واحدة لا ثانية لها وينتج خطاباً سياسياً له القدرة على المناورة خارج طرائق فهم الواقع الفكري والإجتماعي ليعيش داخل الوعي الشقي مرتدياً لبوساً من شبكة صلات التواصل السائبة في فضاء النت معتاشاً في فضاء فجوة الثقافة وهواماتها داخل المملكة الموصدة وحشودها الزاحفة من اجل توزيع المغانم بين شطارها المتآزرين في نهب المال العام واغتيال السياسة وتخريب الإقتصاد وتغييب البصيرة والوضوح حتى غدى البلد في وضعٍ مضطرب لا يهدأ ولا يستريح عرضةً لتراكم التّأزم المعرفي والثقافي و الإقتصادي والسياسي والذي يهدد المجتمع. النوائب ليس تناغماً بين الأشياء وليست ضرباً من التستر والمداهنة بل واقعاً مريراً ملموساً يحياه الناس يومياً، إنها أخطر مما نتوهم حتى الآن متدثيرين بأطنان من الكلمات وأبحر من الحبر بمعزلٍ عن الرغبة في مجاوزة هذه النوائب والعزوف عن بذل الجهد الثقافي الرصين للتغلب عليها. ما النوائب إلا لهب نارٍ في جسمٍ يابسٍ.