حوارات

الصديق بودوارة: وما أحوجنا إلى نشر ثقافة النقد والتمعن، في زمنٍ أصبحنا فيه لا نتقن سوى ثقافة الكراهية بلا حدود

القاص والروائي الدكتور الصديق بودوارة
القاص والروائي الدكتور الصديق بودوارة

للسير الشعبية حضور كبير في المخيلة الجمعية والفردية على حد سواء، وهذا الحضور الفردي، هو الذي يجعل البعض يركز على هذه السير ويجتهد في البحث فيها وفي أثرها الثقافي في المجتمع.

في ليبيا هناك الكثير من السير الشعبية التي تحفظها الذاكرة، والتي تختلف في أثرها، ولو توجهنا بالسؤال لمجموعة من الليبيين عن السيرة التي يستحضرون؛ ستكون السيرة الهلالية هي الحاضرة وبقوة! وبالرغم من هذا الحضور، فإنها وإن كانت مازالت محفوظة في الذاكرة الشعبية، فإنها ضعيفة الحضور في الدراسات والأبحاث التوثيق المادي في شكل كتب ومنشورات.

للحديث عن السيرة الهلالية، نستضيف في هذه الوقفة الكاتب الليبي د.الصديق بودوارة، الشغوف بهذه السيرة منذ الصغر، والذي توج هذا الشغف بإصداره كتاب (تغريبة بني هلال)، الصادر قبل أيام عن دار الجابر، ببنغازي، والذي قدم من خلاله جهداً بحثيًا مميزًا بحق.

هي أيضاً مصدر ثري للمعايير القياسية للبطولة، وهي كذلك خزانة نادرة للنساء المذهلات

بداية، متى بدأت علاقتك بالتغريبة؟ وكيف تطورت هذه العلاقة؟

التغريبة قصة. حكاية متصلة وغرائب متوالية، وليس ثمة أفضل من هذا الخليط ليبهر طفلاً في العاشرة عوده والده على أن يروي له في كل يوم حكايةً عن بطلٍ أسود اسمه “أبوزيد”، وعن فرسان يركبون الإبل، وعن صحراء قاحلة يموت فيها كل شيء ما عدا الشجاعة والنساء.

هكذا تعلمت أن تبهرني الحكاية، والسبب هو دائماً ذلك الرجل الذي كان اسمه “ابريك سليمان بودوارة”. كان يحب الشعر والتدخين، وكان يريد أن يجعل مني رجلاً يحلم بأن ينتصر “أبو زيد” على خصومه على الدوام.

أحببت “تغريبة بني هلال” لأن أبي كان يرويها لي كل يوم. بحسه البسيط التلقائي.

وعندما كبرت على غفلة، وجدتني أعشق علامات الاستفهام، أسأل ولا أجد الجواب، وبطبيعة الحال كانت التغريبة هي الكيان الذي تفضله الأسئلة في داخلي.

ومع تنوع قراءاتي وتخصصي في التاريخ القديم، تعلمت أن لكل حدث تاريخي أصوله وفروعه، لهذا تساءلت عن أصول هذه التغريبة، وعن فروعها أيضاًـ وأين الحقيقة من شطحات خيال الرواة في هذه الملحمة الخالدة. 

ما الذي تمثله هذه السيرة في الموروث الثقافي الليبي؟ وإلى أي مدى تأثرت الثقافة الشعبية بها؟

هي منجم ثمين، في مجاهله كل ما يمكن تصوره من حكم وعبر ومواقف. هي أيضاً مصدر ثري للمعايير القياسية للبطولة، وهي كذلك خزانة نادرة للنساء المذهلات، فلا شيء في الدنيا في الثقافة الشعبية يساوي جمال نساء بني هلال، ولا شيء في الدنيا أيضاً يعادل شهامة رجالهم.

أما الثقافة الشعبية فيكفي أن نطالع الشعر الشعبي، وسوف نجد مئات الأبيات وهي تمثل الصيت الطيب بأنه “صيت هلالي”، وإذا أرادت أن تصف شجاعة فارس فلن تجد له شبيهاً إلا أنه أبو زيد في شجاعته. أما في جمال النساء فالصفيرة عزيزة هي المعيار القياسي للجمال، ويكفي أن تقرأ هذه الأبيات المذهلة لشاعر فحل بقيمة “الرويعي الفاخري” وهو يقول:

((نلقانك عزيزة .. يا مدللة يا اصفيرة عزيزة

انتي شمس في الكون نور وركيزة .. واللي يجهلك كل حاجه جهلها.))

أو هو يصف تربص الهلاللين بتونس ذات يوم قائلاً :

((نلقاني المونس .. بريحة شظاه طلق في غرس تونس

ولفحة حرار شوق في وجه يونس .. ورا سوارها عبد جايب شكلها.))

أو تقرأ للشاعر “قنفود الميجنة المغربي” وهو يريد أن يصف “الأجواد” بأحسن الصفات فلم يجد أفضل من أن يقول عنهم إنهم وكأنهم من اولاد هلال:

((ولجواد ما يعيبوا حد ولا حد يعيبهــــــم .. عليهم مواير من اولاد هـــلال.))

أو ذلك الشاعر “عمران صالح العبدلي” الذي أراد يصف ورفلة فلم يجد أبلغ من أن يقول عنهم:

((القيت من اولاد اهلال في ورفلة .. نحلف لك عليها باليمين وبالله.))

مازلنا بحاجة إلى أن نقتبس من التغريبة الكثير

سؤالنا هنا، كيف تقيم الرواية الليبية للسيرة الهلالية، مقارنة بمثيلاتها العربية؟

كل الروايات في الواقع تبدو وكأن أصحابها وقعوا في حب أولاد اهلال، وكذلك الرواية الليبية، غير أنها تبدو أكثر قسوة في اختيار نهايات أبطالها، وللأمانة فإن الرواية الليبية باللهجة البرقاوية هي الأكثر بلاغة وأبيات شعرها هي الأكثر التزاماً بالقافية.

وهذا ليس تحيزاً كوني انتمي إلى نفس الحيز الجغرافي، ولكن يبدو أن اللهجة البرقاوية بحكم تأثرها بلهجة الهلاليين وبني سليم (الذين استقروا مبكراً في برقة) وبحكم أن برقة هو الإقليم الذي سرعان ما انضوى تحت الحكم الإسلامي بدون أن يضيع وقتاً في المناكفة كما فعل غيره من أقاليم الشمال الإفريقي (احتاج الفتح الاسلامي لكامل شمال افريقيا إلى أكثر من سبعين عاماً فيما انضوت برقة بلمح البصر  تحت رايته)، وهكذا استفادت من انتشار القرآن الكريم ومخالطة العرب القادمين من الحجاز لتقترب لهجتها أكثر من غيرها من اللغة العربية السليمة.

كليبيين؛ ما الذي قدمناه لهذه السيرة؟

هذا سؤال رائع، وهو محرج أيضاً.

في الواقع قدمنا أقل القليل. باستثناء الجهد الكبير للدكتور “علي برهانة”، وبعض الجهود المتناثرة هنا وهناك، مازلنا بحاجة إلى أن نقتبس من التغريبة الكثير، هناك الكثير من القيم الرائعة في هذه الملحمة، (وأنا هنا أتكلم عنها باعتبارها عملاً أدبياً لا حدثاً تاريخياً ).

هناك قيم التضحية، وهناك قيم الشجاعة، وهناك قيم الفروسية، وهناك قيم الوفاء، هناك الكثير لنعلمه لأولادنا الغارقين في ألعاب الفيديو الآن.

عندما رجع “ابوزيد الهلالي” الى أهله “بني هلال” بعد المنفي الإجباري عند بني الزحلان رفض أن يعود قبل أن يرد الاعتبار لأمه الخضرة، فاشترط عليهم أن ترجع على طريق من حرير. وهكذا كان بتدبير ماهر من الجازية إحدى نساء التغريبة المذهلات.

وصلنا للسؤال الذي ربما يتبادر الآن لدى من يطالع هذا الحوار: إلى أي مدى تتصل هذه السيرة بالحقيقة؟

هي حدث حقيقي من ناحية كونها جاءت ببني هلال إلى الشمال الافريقي، لكن الأسباب التاريخية تختلف تماماً عن أسباب الرواة الحالمة، كذلك تتجلى ضآلة الحدث التاريخي في أبطال التغريبة، فهم أبطال افتراضيون في الأغلب، وذكرهم التاريخي لا يمكن أن يرتقي إلى ما أنعمت روايات التغريبة الشعبية عليهم من أسطرة جديرة بالإعجاب.

ولكن، ليبقى إعجابك منحصراً في كونها ملحمة ممتعة، فقط، لا غير.

صدر كتاب (تغريبة بني هلال) للكاتب الدكتور الصديق بودوارة المغربي
صدر كتاب (تغريبة بني هلال) للكاتب الدكتور الصديق بودوارة المغربي

في الرواية الليبية تختلف نهايات مرعي ويحيى مثلاً، عنها في الروايات الأخرى

لننتقل بالحديث حول كتابكم (تغريبة بني هلال) الصادر مؤخرًا، كيف جاءت فكرة الكتاب؟

كانت تراودني منذ زمن طويل، لكن انشغالاتي بصحيفة قورينا في السابق (مدير تحريرها)، ثم بالليبي الآن (رئيس تحريرها) قتلت فكرة كتب عديدة، الصحافة بصفة عامة سيئة جداً بالنسبة للكتابة، كنت دائماً أتمعن في نصوص التغريبة وأشعر بأنها مرتبكة ومليئة بالفوضى، رغم روعتها. لهذا كانت فكرة الكتاب.

وماذا قصدت: بالفوضى؟

كما أوضحت سابقاً، هناك شخصيات تحضر فجأة ثم تختفي، لتكتشف أنها لم توضع أساساً إلا لغرض خدمة حدث مستقبلي. وعندما ينتهي دورها تختفي. هناك نهايات مختلفة لأبطال التغريبة، في الرواية الليبية تختلف نهايات مرعي ويحيى مثلاً، عنها في الروايات الأخرى.

في الرواية الجزائرية مثلاً “دياب بن غانم” هو البطل الأول، على عكس الروايات الليبية والخليجية والمصرية، حيث أبو زيد هو بطل الأبطال.

عندما يتهم الهلالي بوعلي زوجته الخضرة بأنها ربما تكون قد أقامت علاقة مع عبد من عبيد القبيلة لأن ابنها ولد أسوداً، تدفع بأنها لم تلتق منذ مجيئها لبني هلال بعبد أسود وهذا مناف طبعاً لطبيعة الحياة في مجتمع رعوي:

((يا رزق من يوم جيت لوطنكم .. ماريت عبد لاسيد عابر))

وهكذا. هناك الكثير جداً من علامات الفوضى في النص. لكن المساحة لا تكفي.

إذن، ما الذي أردت قوله من خلال الكتاب؟

إن مثل هذه الملاحم تحتاج منا إلى المزيد من الدراسة واستنباط الكثير منها. لا أن نكتفي فقط بترديدها باستمرار.

نحتاج إلى فعل نقدي متمعن في نصوصها، وما أحوجنا إلى نشر ثقافة النقد والتمعن في زمنٍ أصبحنا فيه لا نتقن سوى ثقافة الكراهية بلا حدود.

لماذا تم تقسيم الكتاب إلى أجزاء، مع إن مادته لا تحمل هذا التقسيم؟

بالعكس، مادته تحتمل المزيد من التقسيمات، ولكن هذا فقط جزء من الكتاب.

كان اقتراحاً وجيهاً من صديقي “علي جابر” صاحب دار الجابر، الذي ربما رأي أن قدرة الناس على القراءة أصبحت أقل بكثير، وأن وضع عبارة الجزء الأول على الغلاف سوف تحرمنا من غلاف جديد للجزء الثاني. عموماً ما إن انتهي من الكتاب بأكمله حتى يصدر في كتاب واحد إن شاء الله.

كل المسارب تذهب بك بعيداً عن التمعن والتأمل والاستمتاع بالنص

عودة للسيرة؛ ما الذي بقى منها في الذاكرة الشعبية؟

الآن، لم يتبق الكثير. فالعصر الذي نعيشه لا يهتم كثيراً لمثل هذه الأعمال، إنه يفضل المختصر الذي لا يفيد، هناك التيك توك، وهناك اليوتيوب، وهناك المقاطع القصيرة. كل المسارب تذهب بك بعيداً عن التمعن والتأمل والاستمتاع بالنص.

وكيف يمكن إنعاشها؟

بمثل هذه الأعمال، بعمل كبير لابد أن تقوم به وزارة الثقافة النائمة في العسل.

صحيح إن دور النشر تحاول بإخلاص ومثابرة، لكن (للصبر حدود) كما تقول الست. على الدولة أن تقوم بدورها. هناك أعمال درامية يمكن أن تمولها. وهناك مشاريع كتب وموسوعات يمكن أن تتبناها. هناك مواقع مثل بلد الطيوب مثلاً يمكن أن تدعمها لكي لا تشعر بالتعب فتتوقف. هناك مجلات مثل الليبي ورؤى يمكن أن تسندها، هناك الكثير من العمل، ولكن … على رأي “بوخبينة”: صب المر .. كان المر طاب.

في نهاية هذا اللقاء: ما هي مشاريعك القادمة؟

كتابان أكاديميان في التاريخ هما عبارة عن رسالتي الماجستير والدكتوراه.  وهناك كتاب آخر أوشك على إنجازه بعنوان: (إسرائيل.. مغالطات التاريخ المزور). وهناك روايتين الأولى بعنوان: نياندرتال، والأخرى بعنوان “الدرويش”.

ما أريده فقط هو أن لا تخونني الصحة في الأمتار الأخيرة.

كلمة أخيرة…

بلد الطيوب. له الكلمة الأخيرة. بصراحة أقف منبهراً أمامكم. أنتم ودار الجابر للنشر. من أين تتزودون بهذا الطاقة وهذا الاصرار على المواصلة؟ أنتم جديرون فعلاً بأن يكون لكم علم ودولة اسمها دولة المثابرين.

كل تحيتي لكم.. وبلا حدود.

مقالات ذات علاقة

الروائي الليبي أحمد الفيتوري: في “سيرة بني غازي” اكتب سيرتنا

خلود الفلاح

الفنان التشكيلي الليبي على المنتصر: في مجتمعات استهلاكية بامتياز لا يمكن التعويل عليها في صنع وبناء الإنسان …             

المشرف العام

أسامة الفيض: مشروعي الفني دعوة للسلام

خلود الفلاح

اترك تعليق