حوارات

الدكتور محمد المبروك الدويب : من الطبيعي أن تكون للمؤرخ وجهة نظر

الطيوب : حاوره / مهنّد سليمان

الدكتور الباحث ” محمد المبروك الدويب”

إن التاريخ ليس مجرد كتلة زمانية جامدة تُتلى سردياته بين صحائف الوثائق والمخطوطات والكتب بغية تجزية أوقات أولئك الفارغين أو بعض كسالى الحاضر إنما التاريخ صيرورة ديناميكية دؤوبة سيَّارة تُؤسس لجملة من التراكمات للتجربة الإنسانية منذ اكتشاف الإنسان مدفوعا بهاجسه الأزلي نحو الخلود حقيقة أن الذاكرة البشرية مُهددة بفعل عوامل الشيخوخة والموت، وبذا اهتدى لبداهة تأريخ وتسجيل ما يدور حوله فكانت أبجدية التدوين البِكر هي الرسومات والألوان، وما تعاقب على ذلك من تطورات قادت هذا الإنسان للانتصار لنرجسيته ومطامحه وعصبياته الضيقة فاقترف سلوك التزوير والتحوير، حولنا في ضوء هذا اللقاء مع الدكتور “محمد المبروك الدويب” أستاذ اللغات القديمة (اليونانية واللاتينية) بقسم التاريخ كلية الآداب بجامعة طرابلس طرح عدة قضايا تداخلت فيها فلسفة التاريخ من خلال رؤى مختلفة لتكوين صورة أكثر فهما، ولملمة لصورة حقيقة بُعثرت على شظايا المرايا المُحطّمة !

الجدير بالذكر أنه قد صدر للدكتور الدويب سلسلة من مصادر التاريخ القديم لعل أهمها إصداره أول ترجمة عربية كاملة عن اللغة الاغريقية (اليونانية القديمة) للكتب التسعة من تاريخ هيرودوتس عن وزارة الثقافة والتنمية المعرفية عام 2022م.

هل إعادة كتابة التاريخ تقتضي أن يكون للمؤرخ وجهة نظر ؟
كثير من الذين يطالبون بإعادة كتابة التاريخ يؤسسون قولهم هذا على موقف من التاريخ الذي كتبهم غيرهم لاسيما إذا ما خالف وجهة نظرهم أو أبرز أحداثاً أو شخوصاً لا تتماهى مع أرائهم ولذلك فإن دعوتهم لإعادة كتابة التاريخ تمثل وجهة نظر، ومن الطبيعي أن تكون للمؤرخ وجهة نظر، لكن وجهة نظره يجب ألّا توثر على صدقه في تسجيل الأحداث أو نقل الأخبار، المؤرخ هي صحفي يكتب في زمن لاحق للحدث ويجب أن يتحرّى الصدق والباحث التاريخي له أن يُحلّل ويعلّل ما يتناوله من أحداث وفقاً للنظريات والرؤى العلمية.

متى يُحيّد المشتغل بالتاريخ قيمه الانحيازية؟
من الصعب على أيّ مشتغل بالعلوم الإنسانية أن يحّيد الإنحيازية، لكنه قد يستطيع التقليل من استعمالها والمشتغل بالتاريخ لأنه يتعامل مع الإنسان وفعله في أزمنة مختلفة فهو معرّض في أحيانٍ كثيرة للإنحياز لاسيما في الأحداث التي تمس قيمه الدينية أو المجتمعية أو الوطنية وإن لم يبدِ ذلك بشكل مباشر، إذ يمكن للقاريء أن يتلمّس ذلك من خلال بحث المشتغل بالتاريخ وتفسيره للأحداث وتعليلها واستخلاص نتائجها أو إبداء الآراء بشأنها،و قد يُحيّدها فقط عندما يتناول أحداثاً لا تتعلق بقيمه الاجتماعية أو الدينية أو الوطنية، فعلى سبيل المثال الباحث العربي في التاريخ القديم الذي يدرس الصراع اليوناني الفارسي القديم قد لا ينحاز لأي منهما لكنه عندما يتناول غزو الرومان لشبه الجزيرة العربية أو الشام من الصعب أن يحيّد قيمه.

لماذا مازال الكثيرون يتعاطون مع التاريخ وفق منطق القداسة؟
التاريخ فضلاً عن أنه علم يُدرّس فهو قد بدأ في صورة فن وأدب مارسه المختصون والمثقفون والساسة والعامة وخلال مسيرة الإنسان مثّل هذا النوع من الكتابة أهمية كبيرة في حياة البشر كونه يرتبط بماضيهم الذي هو محل فخر للغالبية من البشر فهو لذلك اكتسب هذا التبجيل لاسيما لدى الشعوب التي لها ماضٍ تفخر به سواء كان ذلك من حيث العطاء للمعرفة الإنسانية أو النضال من أجل الوطن أو أية صورة من صور الفخر بالماضي، وقد يغيب هذا المنطق عندما يدرس الباحث تاريخ الآخر الذي لا يكون هو من مكوناته‘ فمثلا الدارس العربي لتاريخ أميركا لن يتعامل بالمنطق الذي يتعامل به الأميركي الأبيض أو الأسود عند دراسته لهذا التاريخ، لأن الأخيرين يتعاملان مع النص وفقاً لانتمائهما بينما العربي يفكّر وهوخارج دائرة الصراع القديم ونتائجه الماثلة على خريطة البلد اليوم.

هل قضية فهم الحاضر تحتاج بالضرورة إلى رؤية التاريخ بعين ناقدة؟
لأن فهم حالة الإنسان عموماً تعتمد على معرفة تراكمية، وتشخيص هذه الحالة يشبه التشخيص الطبي الذي يبدأه الطبيب بمعرفة التاريخ المرضي للمريض الذي يعالجه إذ لا يمكنه معرفة حالته الراهنة إلاّ بعد سماع تاريخه وسؤاله عدة أسئلة، بعدها يشرع الطبيب في طرح الأسئلة التي يستنتجها من تاريخه ليصل إلى توقعات تنتهي به إلى تشخيص المرض وتأكيد ذلك بالوسائل المعملية، هكذا هو التاريخ يبدأ بسرد الأحداث والوقائع في أزمنتها وأماكنها ثم يشرع الباحث في طرح الأسئلة لتعليل الأحداث وبحث أسبابها واستخلاص النتائج منها وهنا لابد أن يتمتع الباحث برؤية فاحصة ناقدة تمكنه من فحص وتنقيح وتدقيق كل خبر أومعلومة ترد لديه والتحرّي على صحتها لأن ما سينقله بشكل غير دقيق قد يقوده إلى استنتاجات خاطئة وكل ذلك يقود دارس التاريخ أو قارئ التاريخ إلى فهم الحاضر وتوقّع بعضاً مما سيحدث في المستقبل عندما تظهر أمامه بعض المؤشِّرات، ويعتمد في ذلك على مقارنة الظروف المتشابهة التي إذا تكرّرت قد تعيد بعض المشاهد التي سبق وقوعها من آخرين في الزمن الماضي وهذا هو الدرس المستفاد من التاريخ.

البحث عن مفهوم جامع للهوية الليبية هل يمكن أن يبدأ مما إنتهى عنده الأسلاف الأوائل ؟
الهويّة مصطلح ومفهوم واسع تشترك فيه تكوينه عدة عناصر منها التاريخ الجامع لأي أمة أو شعب، والهوية الليبية ولله الحمد لديها من العناصر التي تسهم في وحدتها الكثير ويلعب التاريخ المشترك فيها دوراً مهماً، إذ يشترك الليبيون في تاريخ واحد على مر العصور شهدت أحداثه أرضهم الواحدة وبالتالي يُعد التاريخ الذي سطّره الأسلاف محل فخر لجميع الليبيين وهكذا فإن إبراز ما يحويه من إيجابيات ونقاط جامعة قدّمها هؤلاء الأسلاف سيسهم في ترسيخ الهوية الليبية والمحافظة عليها.

برأيك ما هي الطريقة المثلى لفهم التاريخ؟
لا يختلف التاريخ عن العلوم الإنسانية الأخرى كونه يدرس الإنسان لكنه قد يزيد عنها كونه يدرس جميع جوانب حياة هذا الإنسان، فهو لا يقتصر على السياسة والحروب كما يشاع عنه، بل يدرس التاريخ الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والعلمي لأية أمّة ومن الأهمية أن يعلم المواطن تاريخ وطنه أولا ثم محيطه الذي يعيش فيه أو ينتمي إليه بأي شكل من الأشكال لأن ذلك سيؤهله للتعامل مع هذه الدوائر المحلية والإقليمية والعالمية والذي لايعرف تاريخه أو تاريخ شريكه في الانتماء أو الإقليم أو العالم لا أظن أنه سيجيد التعامل معه أو على الأقل فإنه سيرتكب أخطاءً كثيرة بسبب جهله بهذا التاريخ ولذلك يجب أن نعلّم النشء تاريخ وطنه وأمته ومحيطه الذي يعيش فيه ونُبرز له مواطن التي تُعزز الانتماء والفخر بماضيه ونبيّن له ما مرّ بأمته من أزمات، ونوضّح له الأسباب ليأخذ العبرة ولا يكرر الأخطاء وهذا هو الدرس المستفاد من التاريخ.

كلمة أخيرة:-
أشكركم سلفاً على تواصلكم واهتمامكم بهذا الموضوع وهذه الأسئلة التي يحتاج كل منها إلى محاضرة طويلة لكن الحرص على وقت متابعيكم والمقام يقتضيان الإيجاز في هكذا أحوال وأدعو الله ألّا يكون إيجازنا قد أخلّ بالمراد قوله وأتمنى لكم ولمتابعيكم ووطننا كل خير وسلام.

مقالات ذات علاقة

المهدي جاتو: لا أرضى إلا بالعمل المتقن

رامز رمضان النويصري

عائشة ادريس المغربي: أتجاوز بسرعة ما أكتبه

المشرف العام

”فاطمة حقيق” لفسانيا: الكتاب المزور يغزو السوق الليبي

المشرف العام

اترك تعليق