منذ الصفحات الأولى في رواية (اختلاس ذاكرة ليست صلبة) للروائية الليبية خيرية فتحي عبد الجليل، يشعر القارئ أنه أمام عمل مختلف ومميز، تتشكل خصوصيته في الكشف عن الهموم الجديدة التي تتعرض لها الفتاة المراهقة في الفضاء الافتراضي، وحالة الفوضى العارمة التي تتخبط فيها بين عالمها الواقعي والعالم الذي تلجه من خلال شاشة الحاسوب.
فاطمة، وهي بطلة الرواية فتاة مراهقة في المرحلة الثانوية، تعيش واقعيا في بيت كبير مع قيود والدتها الحريصة المتشددة والنظام القاسي الذي تفرضه على ترتيب البيت ومحاولة ضبط سلوكيات الفتاة كجزء من منظومة أسرية واجتماعية محددة. كما تعيش جزءاً من وقتها في بيئة المدرسة والقوانين الضبطية الصارمة للمعلمات، والهوامش الصغيرة التي تتاح للطالبات وكيف يقمن باستثمارها في مغامرات خطيرة أحياناً، السرد يتناول تفاصيل حياتهن اليومية وقصص العذاب اليومي الذي تكابده الفتاة الليبية كجزء من عائلة في وقت الحرب والنزوح والصراعات العامة والتحولات السياسية والاجتماعية. كما أن فاطمة تعيش أيضاً في عالم أكبر من خلال الشبكة العنكبوتية، حيث الحرية المطلقة، المغامرات الكبيرة، الانفتاح على الجنس الآخر، الثقافات، الأسئلة الوجودية، الفضول ولذة الاكتشاف والتجريب والبحث عن الدهشة والتشبع.
هكذا تعيش فاطمة وبنات جيلها في حالة من التشظي بين عالمين متوازيين، القيود الواقعية المفرطة، والحرية الافتراضية المطلقة، وهكذا ينتقل السرد ببراعة مدهشة ليصف حالة الأنثى اليافعة في جميع تحولاتها النفسية والعاطفية والفكرية، مستنداً على تقنيات حداثوية في أسلوب السرد، بين الواقع والافتراضي، كاشفاً في الوقت ذاته تلك المحن الإنسانية التي ألمت بالوطن من حرب وتهجير، لقد كان سؤالا صادما ومريعا وهي تقول أن والد زميلتها قد مات شهيدا، لكنها لا تعرف مع أي فريق كان. كما تطرق الرواية مأساة الفقد جراء جائحة كوفيد وحالة الرعب والعزلة والقلق والتغيير المصاحب له في الحياة الاجتماعية الواقعية، بل وفي التطبيقات الافتراضية أيضا.
هي رواية المرارة والانفصام والصدمة التي يعيشها جيل بأكمله، لا يعرف لماذا عليه أن يدفع ثمن ما يرتكبه الكبار من جرائم باسم الوطنية، وزيف الشعارات والأوهام والبيئة القاسية الطاردة، حيث ترث الفتيات ثقافة ذويهن، ينظرن باحتقار لزميلتهن مروة لأن والدتها عاملة نظافة، في وقت قتل والدها في حرب لا ذنب لها فيها، تمزق المعلمة كتاباً عن الروح وتلقي به في سلة القمامة عندما اكتشفت وجوده في حقيبة مروة، تقرر فاطمة مع بقية الزميلات أن يبحثن عن سر الروح، وللبحث عن الأجوبة يخضن مغامرة مع قروبات افتراضية تخوض في جوانب فلسفية ودينية شديدة التعقيد، هكذا في كل مرة يلجأن إلى العالم الافتراضي حيث مغريات الانسلاخ من القيم، الوهج الطاغي للحرية الغربية، ويظهر (عهد) صديق المسنجر الذي يعيش في أمريكا، وحالة التوق النفسي إلى الانتقال ولو بشكل افتراضي إلى ذلك العالم، لتعبر بطلة الرواية إلى حالة حب معقدة مليئة بالصراعات والشكوك والخوف حين يختلس هذا الصديق ذاكرة هاتفها بكل ما تحويه من صور ومقاطع مسجلة، تجعلها في حالة من الرعب والقلق والخوف من الابتزاز أو التشهير، لتصف معاناة أخرى تتعرض لها الفتاة في رحلة هروبها من الواقع إلى العالم الموازي.
رواية سارت بشكل مذهل لتصف كل قضايا الجيل الشائكة، في نوعها الأنثوي، بلغة شعرية عالية، وحشد ضخم من الانفعالات والمشاعر والقيم والتساؤلات، ومن تأثيث المشهدية بالألوان والموسيقى والطعم والحوارات والرسائل والمعلومات، كل ذلك بأسلوب مشوق وانتقالات بارعة ومدروسة بدقة وعناية ملفتة.
رواية (اختلاس ذاكرة ليست صلبة)، فازت بجائزة أحمد إبراهيم الفقيه التشجيعية، في نسختها الثانية للعام 2022م.