كيف تقيّم تجربتك مع الناشرين؟ وماذا يعني لك النشر في بلد كألمانيا حيث صدر ديوانك الأخير “على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت”؟
تعاملت مع ناشرين كثيرين في فلسطين، وفي الأردن، وفي مصر، وهذه هي التجربة الأولى لي مع ناشر خارج الوطن العربي؛ في ألمانيا. كثيرة هي الدروس التي تعلمتها من هذا التعامل، أقلها أنني صرت أفهم أكثر في صناعة النشر ومعايير الكتاب الجيد، وعناصر الطباعة الجيدة. الناشرون بالمجمل ممن تعاملت معهم جيدون، أحيانا تحدث خلافات، لكنها خلافات لا تذكر، ولا تسبب قطيعة مع الناشر أو التراشق الإعلامي أو في الكتابة. الكاتب يختلف مزاجه وتوقعاته عن الناشر، لذلك تحدث تلك الخلافات، فكلاهما يحكم على الكتاب من موقعه، ولكلّ طموحه المعذور فيه، لكنهما يتفقان في كثير من الأهداف والرؤى والمصالح.
تجربة النشر في ألمانيا مع دار بدوي لصاحبها الدكتور محمد بدوي مصطفى، لا شك في أنها مهمة، وستساعد في إيصال الكتاب وما فيه من آراء وجماليات مقترحة إلى قراء جدد، وخاصة الجالية العربية المقيمة في ألمانيا، ويمكن أن يصل إلى دول أوروبية من هناك، فالحركة أسهل، وسيل الكتب يتحرك بسلاسة في سوق يستوعب الكثير من مخرجات صناعة النشر.
الناشر د. محمد بدوي، ناشر نشيط، وأكاديمي فذّ، ويتمتع بعلاقات واسعة، وهذا يخدم الدار ومنشوراتها المتنوعة والمتسعة والمفتوحة على معارف وكتاب كثيرين، عدا أن الدار تشارك بمعارض الكتب العربية في ألمانيا كمعرض فرانكفورت والمعارض الدولية العربية في المغرب والسعودية مثلا.
تميل عناوين كتبك إلى أن تكون قصيرة، وخاصة الدواوين الشعرية؟ لكن بدا العنوان في هذا الديوان طويلاً. كيف نشأ هذا العنوان؟ وماذا يشكل لقصائد الديوان؟
لكل عنوان من عناوين كتبي قصة لا تشبه أختها، بدءا من أول ديوان ألفته، ولم أطبعه وأطلقت عليه اسم “أنغام على أوتار مقطّعة”، وأنا في المرحلة الجامعية الأولى، وحتى الديوان الأخير. في هذا الديوان استولت عليّ كذلك فكرة العلاقة بين السرد والشعر، وهو ما كنت خصصت له ديوان “وشيء من سرد قليل”، كأن السرد في هذا الديوان قليل، والشعر أكثر، هذا ما يوحي به العنوان، فسبق أن قلت إن “القليل من السرد لا يفسد الشعر”. لم أنته من الفكرة تماماً، إذ غالباً ما تتناسل كتبي؛ بعضها من بعض، فجاءت فكرة “الحافّة” التي تعني الطرف، وما تشير إليه من معنى التأرجح، فعلى حافة الشعر، كأنني أسير في طريق وصلت إلى حافته، لأنتقل إلى جادّة أخرى وأكمل المسيرة، وقد تعني السقوط في هُوّة، فكان بقية الاسم: ثمة عشق وثمة موت، والديوان مخصص لهذه الثيمات الثلاث: الحب، والموت، والشعر، كما أنني بنيت الديوان بناء منهجيا واضحا في تبويب القصائد وترتيبها، لتبدأ بالشعر وتنتهي بالحديث عن الموت بقصائد كتبتها بفترة الحجر الصحي العالمي بسبب فايروس كورونا؛ كوفيد التاسع عشر.
يلمح في الديوان، وخاصة في مجموعة “إللات محاولة للقفز على حواجز اللغة” نفَس نقدي. هل يحتمل الشعر أن يكون نقدا أدبياً؟
ما لم ينتبه له النقد الأدبي والنقاد- في ظني- هو أن النقد موضوع، وليس طريقة، فيمكن على هذا الأساس أن يكون النقد شعريا، كما حدث مع بعض الكتب ككتاب “فن الشعر” لهوراس أو “فن الشعر” للشاعر الفرنسي نيكولا باولو، فهما كتابا شعر نقدي جمالي، وإن شئت فانطباعيّ، يتحدثان عن الشعر وأسسه، وكنت تحدثت عن هذه الفكرة بالذات في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية” في الفصل الأخير منه.
لذلك كتبت كثيرا في أعمال شعرية وفنية وأدبية شعرا له نفس نقدي في هذا الديوان، كمجموعة القصائد التي تناولت فيها رواية أرواح كليمنجاروا، فهذه الرواية كتبت فيها ثلاث مقالات نقدية، لكنني لم أكن لأنتهي منها، ومن أثرها فيّ، لموضوعها الحساس الذي يمسّ “الإعاقة”، وتحدي تلك الإعاقة. وكذلك عندما تحدثت عن ديوان “الناقص مني” لصديقي الشاعر جاد عزت الغزاوي، وديوان خليل ناصيف “الغابة التي خرجت من الصورة” وتحدثت عن شخصيات سينمائية وفنانين وشعراء وكتاب.
كل هذه القصائد التي تتحدث عن تلك الأعمال الإبداعية ذات توجه نقدي. فأنا هنا حاولت أن أكتب النقد بطريقة شعرية. أظنه نوع من التجريب، أو إعادة هذه الطريقة الموغلة في القدم إلى بؤرة الضوء. على الرغم من أن قناعتي الشخصية هي أن كل كتابة مهما كانت، فإنها تحمل بعدا نقديا، بالمفهوم الشامل للنقد، لأنها تحمل وجهة نظر، وتحمل أفكارا معينة، ولا تقف على الحياد، إذ لا يمكن للكتابة أن تكون محايدة؛ إذ تضع صاحبها في موقف حياتي وأيديولوجي ما.
أشعر أنك تجني على كتبك الشعرية باحتوائها على قصائد أيروسية، تكاد تكون مباشرة، كما في هذا الديوان، فلا تصل إلى قطاع كبير من القراء لاسيما الناشئين وطلاب المدارس، ألم تحسب حسابا لهذا التوقّع وأنت تعدّ للديوان؟
الكتابة الأيروسية ليست جريمة، ولا جناية، وهي موضوع شعري إنساني كأيّ موضوع آخر، يكتسب أدبيته وشعريته من طريقة تناوله، ووضعه كغيره من الموضوعات في سياق من الدهشة والجمال، ولا بد من أن يكتب الكتاب فيه. استراتيجيتي في الكتابة هي أنني أظل مُصرّاً على عاديّة هذا النوع من الكتابة، فأدخلها في كل كتبي، الشعرية، والسردية، والنقدية، فلا بد من أن تكون حاضرة في كل كتاب؛ لأقول للمجتمع عامة وللمثقفين على شتى أنواعهم أن هذا الموضوع مقدس، والكتابة فيه لازمة وضرورية.
خصصت في هذا الديوان قصائد تحت عنوان “في مديح النهد”، مع أن موضوع الأيروسية لم يغب عن قصائد أخرى في الديوان. لاحظ مثلا محرر وكالة عُمان الإخبارية عندما نشر خبر عن الديوان تجاهل كلمة نهد، فكتب بدلا من ذلك “واشتملت المجموعة الرابعة على ثماني قصائد حول ثيمة الجسد”.
أما قضية حرمان الناشئة والطلاب من قراءتها، فأنا لا أخاف هذه المسألة فمن أراد أن يقرأ كتبي سيقرأها، ويبحث عنها، لكن قضية اقتنائها في مكتبات المدارس تظل الفرصة في ذلك ضعيفة؛ لأنهم يعلمون على نحو مؤكد أن في هذه الكتب ما يحرض على الحرية بمفهومها الشامل، ولا يعلمون على نحو تفصيلي ماذا يوجد في كتب المكتبات المدرسية من مشاهد سردية عنيفة من ناحية جنسية في كتب الطيب صالح، ونجيب محفوظ، ومحمود درويش، وبدر شاكر السياب، وديوان أبي نواس، وفي قصائد المعلقات، والقائمة طويلة، عدا ما في كتب الفقه من موضوعات جنسية، ومجلة بلسم الطبية التي تشترك في اقتنائها كل المدارس، ففيها الكثير من النواحي الجنسية من أسئلة وموضوعات، ويتداولها الطلاب والطالبات دون أي حذر.
نحن مجتمعات ما زلنا نخاف من الجنس والحديث فيه، إن كان مصدره علنياً، أما إن كان مخفيا فلا مشكلة، فالمعلقات تدرس في المدارس العربية، ومنها الفلسطينية، لكنهم يحذفون أبياتها الأيروسية. هذا يشوه العقل، ويشوه النص، ويشوش عملية التدريس نفسها، ويخرج الدارس والمعلم بفكرة ناقصة عن طبيعة تفكير العربي. على سبيل المثال عندما كنت أدرس سورة الرحمن لطلاب المرحلة الثانوية، كنت أمر على قوله تعالى “لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جان”، ولا أتوسع في شرح مفهوم الطمث اللغوي، لأنه قد يسبب لي إحراجاً، لذلك كنت أكتفي بالقول: لم يسبق لهنّ الزواج، لكن المعنى الدقيق للآية ليس هذا وحسب، هنا تضيع جمالية الاستخدام القرآني للمفردات ودقة استعمالها في سياقاتها التي جاءت فيها، وكذلك كنت أتجاوز كثيرا عن أبيات الغزل الحسي في تصوير جسد المرأة أو بعض أعضائها الظاهرة. فالمعلم المتنور لن يجد من يحميه إذ جرى وراء شهوة العلم والمعرفة والتوسع العلمي، سيكون مداناً حتماً، كنت أمسك العصا من الوسط، وأحيل الطلاب على المراجع، ومن أراد أن يتعلم الدقة فكنت أوجهه إلى المصادر ذات العلاقة.
في أحد التعليقات التي يكتبها القراء، اتهمك البعض بالغيرة من الكتاب والشعراء الآخرين، إلى درجة اتهامك أنك تكتب عنهم لتنال منهم وأن تكون لهم ندا، وساعيا إلى الشهرة. كيف تنظر إلى هذه المسألة الآن؟ وكم لفت انتباهك هذا الاتهام إلى وجود هذه المسألة؟
ليس كل تعليقات القراء لها قيمة حقيقية، بعضها مسيء وتافه، فإما أن يكون مكتوبا بدافع النيل الشخصي، أو الجهل بالمسألة التي أكون بصدد الحديث عنها، جربت ذلك في موضوعات أيروسية وسياسية ونقدية كذلك. شخصيا أحب تعليقات القراء وأتابعها، وأمنحها مكانة خاصة في كتبي. هي مهمة حتى التي تنتقدني بمعقولية، وليس تلك الاتهامية الهجومية التي لا تستند إلى منطق أو دليل.
أنا مقتنع، وهذا ليس عيبا، أن الكاتب عندما يكتب يحب أن يكون مشهورا، وإلا لماذا يكتب وينشر، وهذه الرغبة هي التي تدفع الكتاب للاستمرار في الكتابة وتطويرها وتعدد مذاهبها وموضوعاتها، للحصول على قدر أكبر من القراء، أي على تمدد معرفي، بمعنى الحصول على مزيد من الشهرة، لكن العيب هو أن تبني شهرتك على شهرة غيرك أو تتعمد تحطيم غيرك لتنال الشهرة، هذه معيبة، ومثلبة في حق الكاتب. وأنا أحذر منها حذرا مضاعفاً.
تبدو لك شخصيتان متناقضتان، صورة مرهفة حساسة تظهر في أشعارك، وصورة حادة مشاكسة شرسة وربما عدائية في كتاباتك النقدية. هل لاحظت ذلك في نفسك؟ وباعتقادك هل يمكن أن تتجاور في الشخص شخصيتان متناقضتان؟
هذا صحيح، بل يقول النقاد إن كل كتاب يعطي صاحبه صورة مختلفة عن صورته التي هي له في الواقع. فصورة الكاتب الناقد تختلف عن صورته وهو شاعر، وتختلف عنه وهو سارد، وكذلك تختلف إن كان شاعرا غزليا أو شاعرا صوفيا أو شاعرا سياسيا، إلى غير ذلك.
في داخل كل منا شخصيات متصارعة، أو متصالحة، متجاورة بحب أو بالتعايش الحتمي، تعايش الضرورة الذي لا مفر منه. الإنسان تتغير حاله وأفكاره ومزاجيته كل حين، فما بالك بالكاتب الذي يخضع لكثير من المؤثرات والضغوطات كإنسان يعيش في مجتمع مليء بالتناقضات، إضافة إلى كونه كاتبا، والضغوطات المفروضة عليه بفعل الكتابة ومآلاتها ومسؤولياتها.
عندما أمارس العملية النقدية أكون شخصا مختلفا جدا، بالفعل أكون حادا، غير متسامح، وبسبب ذلك أوصف بصفات كثيرة، أوصف بأنني أشخصن الأمور أحيانا، وأحيانا أبدوا فجاً، وأخرى وقحاً، أو بذيئا، أو مجاملا أحيانا وذلك حسب الكتّاب وردات فعلهم على ما أكتب. فإن كتبت نقدا لم يعجب الآخرين سيصفونني بصفات سيئة بالمجمل، ومن الكتّاب من ناصبني العداء، واتهمني بالجهل وسوء القراءة. الكتّاب عموماً يعانون من الانفصام والجبن، فهم يدّعون أنهم ديمقراطيون وهم لا يحتملون رأيا نقديا يقال لهم فيه أنكم أخطأتم، بل إنكم تمارسون دوراً تدميريا للجمال في كتبكم الرديئة، لذلك يبدون في الغالب أشخاصاً جبناء لأنهم لا يستطيعون الاعتراف بالحقيقة.
بعض الكتاب يتوقعون منك نقدا كما هم يرسمون في مخيلاتهم، أو حسب تلقيهم لأعمال زملائهم، فالكتاب الذي لم يعجب فلانا من الكتّاب إن كتبت مقالة لم توافق رأيه في العمل توصف بأوصاف تتفاجأ بمرضيتها وتفاهتها. على العموم الحياة الثقافية لها أمراضها وتجلب العلل، والأسلم للكاتب أو للشاعر أو للناقد ألا يذهب وراء تلك الترهات ويعمل وفق قناعاته، فلا بد من أنه لن يرضى عنه الجميع، كما أنه لن يسخط منه الجميع، إنما سيجد له أتباعاً، كما سيجد له كارهين. أصبحت أكتب ولا أنتظر مدحا ولا قدحا لأن كليهما غير حقيقي، ولأضرب لحضرتك مثلا؛ عندما كتبت نقداً رضي عنه صاحبه أشاد به وبي، وبأنني ناقد موضوعي ومهمّ، اختلفت هذه النظرة إلى العكس تماما عندما كان النقد في غير صالحه، وقال: اذهب وتعلم النقد من أستاذك…”.
ألاحظ أن الشعر لديك غير مقتصر على الدواوين الشعرية، وثانيا: الشعر موجود بكتبك غير الشعرية، ألا يعدّ هذا برأيك تشتيتاً لشخصيتك الشعرية وأنت توزعها على عدة كتب غير شعرية وتجرّب أشكال الشعر كافّة؟ وما الهدف من ذلك؟
أصدرت ثمانية دواوين شعرية حتى الآن وهي: ديوان أميرة الوجد، 2013. وديوان مزاج غزة العاصف، 2014. وديوان “وأنتِ وحدكِ أغنية”، 2015. وديوان “الحب أن”، 2017. وديوان “ما يشبه الرثاء”، 2019. وديوان “وشيء من سرد قليل”، 2021. وديوان “على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت”، 2022. ومجموعة للفتيات والفتيان “قصائد وأناشيد”، 2014. وعدا هذه الدواوين هناك ثلاثة كتب نثرية (نصوص) ضمنتها شيئا من الشعر، وهي: رسائل إلى شهرزاد، 2013، ومن طقوس القهوة المرة، 2013، والإصحاح الأول لحرف الفاء- أسعدت صباحاً يا سيدتي، 2021، كما أنهيت كتاب من قتل مدرس التاريخ، 2021 بأربع قصائد. وغير هذه الكتب ثمة دواوين أخرى جاهزة للطباعة.
وفي كل هذا الشعر كتبت عن مواضيع كثيرة، غزلية، وسياسية وطنية، وفكرية، وعن الموت والحياة، وعن الدين، وكتبت الذاتي والعامي الإنساني، وكتبت شعر المناسبات، واستكتبت شعرا في موضوعات معينة واستجبت لذلك وكتبت، وجربت القصيدة القصيرة (الأبيجرام) والطويلة، والفصيحة والعامية، والشعر المقطعي، والعمودي والتفعيلة، وقصيدة النثر، والقصيدة الساخرة، والجدية. والنص المفتوح الممتزج فيه الشعر بالنثر.
لا أدري إن كانت هذه الخريطة السابقة من توزيع الشعر تشتت القارئ الباحث عن الشاعر فيّ أم لا. أشعر أنني لا أستطيع التخلي عن الشعر في حياتي وفي كتاباتي، ربما بحكم قراءاتي المبكرة في كتب التراث الأدبية والدينية من تفسير وفقه كنت أجد الشعر أمامي متجاورا مع النثر، كانت هذه الطريقة تستهويني، تكسر الإيقاعات المختلفة بين الشعر والنثر، انعكس هذا في فترة متأخرة على التأمل في القرآن الكريم، وكم وجدت فيه من عناصر الشعر إلا أنه نثر. كل ذلك ترك أثره في طريقتي في الكتابة، فلا يكاد يخلو أي مقال أو قصة إلى الإشارة أو التناص أو الاقتباس من الشعر، فهو متغلغل في تكويني منذ كنت طفلا أسمعه من أبي وأمي عبر الغناء والزجل، وحفلات الزواج الشعبية، وما كنت أقرأه في كتب المدارس التي كانت مبنية وما زالت على التجاور بين النثر والشعر والقرآن الكريم والحديث الشريف، هذا المزج ترك بصمته في كل ما كتبته، ولاحقا صرت على قناعة أنه لا فرق بين الشعر والنثر سوى بطريقة الكتابة، لكن موضوعات الشعر والنثر هي واحدة، فلماذا لا يتعاضدان ولا يتجاوران في قصيدة أو في مقالة أو في قصة أو خاطرة. لقد عزز هذا لديّ أيضاً ما علمته لطلابي من فنّ المقامات التي كانت نصوصا نثرية تنتهي كل واحدة منها بمقطوعة شعرية. لقد كان الأمر رائقاً ومختلفاً، ومثيرا للاهتمام لديّ.
عدا أن آخر صيحات النقد تطالب بزوال الحدود بين الأجناس الأدبية وتقول بتداخلها، مع أن هذه مسألة أخرى؛ مختلفة قليلا عما في هذا السؤال وهذه الإجابة، لكنها قد تشترك معها في بعض المساحة في ديوانيْ “وشيء من سرد قليل” و”على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت”، حاولت أن أهدم هذا الحد الفاصل المتوهم بين الشعر والنثر، وفي كل ذلك عيني على تركيب القرآن الكريم ونظمه، ولي في ذلك مقالان منشوران، فأنا لا أنظّر، وإنما أتأمل، وأجرب بناء على ما أهتدي إليه بفعل هذا التأمل، فأطبّق ما توصلت إليه على ما أكتبه من شعر، كهذا الديوان وديوان “وشيء من سرد قليل” والكتاب القادم بخصوص الكتابة بتقنية الجملة الاسمية. فالشعر عندي هو تجربة في اللغة، وهي تجربة جمالية في الدرجة الأولى.
ثمة تجربة لفتت انتباهي وهو قصيدتك المغناة “سكّر شبابيكك”، حدثني عن هذه التجربة، كيف وجدتها؟ وما هو تقييمك الشخصي لها؟
في الحقيقة كتبت الكثير من النصوص الصالحة للنشيد وللغناء، ولديّ ديوانان لهذا الغرض أحدهما أناشيد للأطفال لم يطبع بعد، وديوان باللهجة العامية، كلها كتبتها من أجل الغناء، سواء أكانت باللهجة العامية أم بالفصيحة.
قبل أغنية “سكّر شبابيكك” التي لحنّها وأداها صديقي الفنان الأردني محمد القطري لي نشيدان تربويان، ملحنان، ولي أغنية أخرى كتبتها في مخيم الزيزفونة للأطفال الذي أقامتها جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل عام 2014.
وكتبت العديد من الأغاني لأجل هذا الغرض، غنيت فيها للشهداء والوطن، وللحبيبة وفي موضوعات إنسانية عامة، لكنّ هذه التجارب على أهميتها كانت محدودة الانتشار ومتواضعة، ولم تلفت النظر، أحاول بين والآخر الاتصال ببعض الملحنين لكنني لم أفلح إلى الآن بعمل أغنية ذات صدى كبير.
لا أحد يماري في أن تلحين الشعر وغناءه خطوة مهمة للشاعر، فقد كان الشعر والغناء صنوين منذ أن عرف العرب وغير العرب الشعر والموسيقى، فكما قال حسان بن ثابت: “تغنّ بالشعر أمّا كنتَ قائله، إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ”. آمل أن يتطور الأمر إلى مشروع متكامل مع أحد الملحنين أو المغنين، فالمسألة مهمة، وإن أتت ستكون إضافة نوعية في مسيرتي الأدبية والشعرية.
على الرغم من هذا النشاط الثري في التجرتين النقدية والكتابية في الشعر إلا أن ما لفت انتباهي غيابك عن أمسيات معرض الكتاب الأخير، وأمسيات ومهرجانات خارج في فلسطين. ما السبب برأيك؟
هناك كثير من الأسماء الوازنة شعريا أيضا لم تشارك بهذه الأمسيات وهذه المهرجانات، الساحة مليئة بالكتاب والشعراء. المهم في المسألة هو أن نكون فاعلين في أي موقع نوجد فيه، والمشاركات المهرجانية لا تستهويني، وخاصة الخارجية، فأنا شخص لا أحب السفر، والأمسيات الشعرية أراها بالمجمل تعيسة ليس بشعرائها، بل بالكيفية التي تنظم فيها؛ ليس معقولا أن يكون هناك في الأمسية أكثر من شاعر، تأتي إليه الناس لتستمع إليه وحده ليشبع ذائقتها ولتتعرف عليه؛ شاعراً مكتملاً بنصوص متعددة أو تجربة جمالية معينة، كما يحدث أحياناً في أمسيات متحف محمود درويش حالياً في فلسطين، وكما كان يحدث مع نزار قباني ومحمود درويش، ويحدث اليوم مع بعض شعراء الشعر النبطي في دول كالسعودية، أو كما حدث مع تميم البرغوثي مؤخرا في الأمسية التي أقيمت في عمّان وبثتها قناة الجزيرة الفضائية، أكثر من ساعة ونصف والجمهور بشقيه بحضرة شاعر واحد، عاشت معه بكل التفاصيل وتشبعت من شعره وحده. هذا ما أرغب فيه وما أحبّذه، أما ما حدث في معرض الكتاب الأخير فكان أشبه بالمهزلة، وليس بالأمسيات الشعرية على أهمية الشعراء المشاركين وأهمية أغلب ما ألقوه في تلك الأمسيات.
كثرة الشعراء في الأمسية الواحدة رفع عتب، ومسخ لتجارب الشعراء المهمين، وهذا النمط من الأمسيات لا يصلح إلا لهواة الشعر والذين ما زالوا يتعلمونه. أما مع أصحاب المشاريع الشعرية والرؤى الجمالية، فلا يصلح إلا أن يكونوا منفردين وحدهم مع الجمهور.
وهذه الطريقة المسخ لا تصنع شاعرا أيضاً، ولا تساهم بتطوير الذائقة الجمالية للجمهور المستمع، وهي مملة، والشعراء يضرب بعضهم بعضا في أساليبهم ورؤاهم وأفكارهم، ما يؤدي إلى تفتت الجمهور أو عدم مبالاته بكل ذلك، والشعر ذائقة في نهاية المطاف تصنع الجمهور، والجمهور يغذيها، فهي ذات اتجاهين مهمين، وهذا لا يتحقق بهذه الطريقة المضجرة.
صحيح أن الشعراء كثيرون، لكن لا يعني كثرتهم حشد العديد منهم في أمسية واحدة لإرضائهم، إن في ذلك قتلاً للروح الشعرية والشاعر لو كانوا يعلمون ماذا يعني الشعر في حقيقته. لذلك أفضل مثلا المشاركة النقدية على الشعرية، لأنني أكون فيها عادة منفردا أو بصحبة الكاتب الذي أتحدث عنه. هذا أكثر فائدة للجمهور، ولي شخصياً، وفيه تركيز أكثر للأفكار والرؤى، فضلا عن أن الاختلاف النقدي متقبل أكثر من الجمهور المستعد نفسيا لاختلاف وجهات النظر أكثر من الجمهور الذي يأتي للاستماع للشاعر بذائقته وحسه وقلبه، قبل عقله.
أعلم أن في الأمر مأزقاً، وهو مأزق كبير، أما كيف يجب التغلب عليه؟ فعلى صناع القرارات الثقافية التفكير بالأمر جدّياً، ولا بد من أنهم سيجدون حلاً لو أرادوا ذلك. ولكن الأهم من ذلك: هل هم مقتنعون بما أقول وأعتقد بهذا الخصوص؟