ملهم الملائكة | MEO
مبدع ‘الشيخ والبحر’ كان في نهاية حياته قبل انتحاره يعاني على مستوى صحته العقلية وصحته البدنية فقد أصيب خلال حياته بالملاريا والدزنتري وسرطان الجلد وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع كولسترول الدم، كما عانى من ارتجاجات دماغية لم يشف منها ومن عجائب حياته تعرضه لسقوط طائرة لمرتين ومن الغريب جداً أنّه نجا منهما.
ليس من السهل أن يكتب الصياد قاتل الحيوانات رواية رقيقة مثل “الشيخ والبحر”. ومن غير المعقول أن يقتل هذا الصياد نفسه ببندقية صيد، ليضع لحياته نهاية غير مقنعة قط. سلسلة الحقائق التي خرجت من بيت همنغواي صعوداً في التواريخ حتى جده، ونزولاً فيها حتى حفيدته تثير أسئلة أكثر مما تجيب عن أسئلة.
انتحر الكاتب أرنست همنغواي،الذي امتاز بواقعية ورجولة ملفتة للنظر، ببندقية صيد طويلة مزدوجة الماسورة من نوع W. & C. Scott &Son .عملياً يبدو هذا عبثياًومضحكاً، بل غير ممكن، فالسيطرة عسيرة جداً على بندقية صيد بماسورة مزدوجة طويلة (يصل طول الماسورة الى 90 سم وبإضافة غرفة الزناد وقنطرته يصبح بعد الزناد عن سبابة الرامي باتجاه نفسه نحو متر كامل!)، وحتماً سيكون توجيهها باتجاه رأس الرامي صعباً جداً، والسؤال هنا هو: لماذا يريد همنغواي خبير السلاح أن ينتحر بسلاح من هذا النوع؟ لمَ لم ينتحر بمسدس عادي؟
هذا الرجل القريب من العنف وعالمه، شارك شخصياً في الحرب العالمية الأولى، وفي الحرب الأهلية الإسبانية، كما شارك بصفة صحفية في الحرب العالمية الثانية، فكيف يقرر أن ينتحر ببندقة صيد خردقية؟ لا يبدو لي هذا قراراً منطقياً، أما كان بوسعه أن ينتحر بطريقة أبسط وأكثر حسماً؟ أحسب أن القصة اعقد من أن تكون انتحاراً غامضاً يحسم الموقف.ولابد من الإشارة هنا إلى أنّ الكاتب همنغواي هو واحد من سبعة منتحرين في عائلته، أولهم كان ابوه كلارنس الذي أطلق النار على نفسه عام 1928.
بعد انتحار همنغواي عام 1961، انتحرت شقيقته اورزولا في عام 1966 وهي في سن الثالثة والستين. وفي عام 1982، انتحر شقيقه ليستر بأطلاق النار على نفسه في بيته على شاطئ مدينة ميامي، ليفارق الحياة وهو في سن 54 عاما. ثم انتحرت حفيدته مارغو في شهر تموز/ يوليو من عام 1996 بتناول جرعة كبيرة من عقاقير الاعصاب.
كل هذه الانتحارات لابد أن تضع انتحار الكاتب الكبير في سياق أسري موروث، إنها عائلة تغرق بالكآبة، وتعيش أزمة وجودية خانقة موروثة. والمفارقة هي أن والدة أرنست دأبت في طفولته على الباسه ملابس البنات، وكان شعره يوحي أيضا بأنه بنت، لكن المفارقة هي أنّه كبر ليصبح رجلاً يعيش فيخضم تجارب العنف وفي أتون أكبر حربين كونيتين في التاريخ.
إبداع همنغواي يتناقض إلى حد كبير مع مفردات حياته، فهو مثقف مفعم بالإنسانية، لكنه صياد يحترف قتل الحيوانات لمجرد المتعة، هذه حقيقة وحشية صادمة، فالقتل لأجل المتعة سادية لا تليق بالإنسان، ويكسر هذا التعميم المخيف “سانتياغو” صياد السمك الشيخ في روايته نادرة المثال “الشيخ والبحر”، وهو بطل يجعل الصيد مبرراً مادام يسخّر للتغذية واطعام الفقراء، مع أن اسماك البحر التهمت طعام الفقراء! همنغواي، عاشق للأسلحة، لكن رواياته رفضت الحروب وتصدت لها وأشهرها وداعاً للسلاح، ولمن تقرع الأجراس، وتشرق الشمس مرة أخرى. هو ليس يسارياً لكنّ شائعات تتردد أنّه كان صديقاً شخصياً لكاسترو الزعيم والرئيس الشيوعي الوحيد في قارتي أميركا. الصورة الوحيدة المتداولة عن هذه الصداقة لا تقول الكثير، لاسيما أن همنغواي انتحر بعد عام واحد من وصول كاسترو للسلطة في كوبا. عاش همنغواي وزوجته الثالثة 20 عاماً في كوبا (من عام 1940 حتى عام 1960، عام قيام الثورة الشيوعية)، أي انه عاصر الديكتاتور باتيستا، وحين كتب رائعته الشهيرة “الشيخ والبحر” لم يكن بأيّ شكل يبث بروباغندا شيوعية لكاسترو. كانت الرواية صغيرة الحجم عملاً انسانياً مفعماً بالأحاسيس لا تتسرب من ثناياه أي ملامح سياسية.
ونشر جاكوب وتايمرمان عام 1990 في صحيفة نيويوركر تحقيقاً ميدانياً مفصلاً عن دور همنغواي في كوبا، كاشفاً أنّ صيفاً واحداً فحسب مر على همنغواي في ظل زعامة الثنائي اليساري الثورة كاسترو/غيفارا لشبه جزيرة القصب والحكايا الحزينة، وكانت أدبيات الثورة الشيوعية تروج لفكرة أن همنغواي جزء من المشهد الفكري والثقافي وحتى السياسي في كوبا “كان همنغواي رمزاً ثقافياً، خُلق ليصبح معلماً جاذبا للسياح، وليكون آلة دعاية” بمعنى آلة تروج للسياسة وللمناخ الفكري اليساري السائد عالمياً في عصر القطبية السياسية. وكتب تايمارمان:
“الثوريون لم يتعاطفوا حقاً مع همنغواي، اذ لم يكن مهتماً بكوبا اليسارية قط، ولا بالصراع ضد باتيستا، ولا بمغامرات المسلحين في جبال سييرامايسترا. ومنذ انتحاره في عام 1961، جرت محاولات حثيثة لإبراز معالم تعاطفه مع كوبا…بل كانت الماكنة الاعلامية في كوبا حريصة على الإيحاء للسياح بأن همنغواي كان يدعم كاسترو سياسياً، وأنه كان جزءاً من الثورة. والحقيقة هي أن النظام السياسية في كوبا لم ينجح قط في تأسيس رابطة صلدة بين همنغواي والنهج الكاستروي”.
وفي زمن ما تداولت كواليس الأدب والسياسة همسات عن علاقة ذات طابع تجسسي بين العملاق أرنست همنغواي وبين قادة الاتحاد السوفياتي. وكشف حوار بثته شبكة البث الإذاعي العام الأميركية npr عن جانب غامض في هذا السياق. في برنامج حواري استضافت المحطة موظف السي آي أي نيكولاس رينولدز الذي ألف كتاباً عن همنغواي اسمه:
Writer, Sailor, Soldier, Spy: Ernest Hemingway’s Secret Adventures
وسألته:
كيف اجتذب ارنست همنغواي الأميركي غير اليساري نظر السوفييت فأجاب:
كان همنغواي رجلاً يبث بقوة الدعاية السياسية، وكان دخول مراكز القرار الكبرى متاحاً له، واحسب أن السوفييت كانوا غير مدركين لما يريدونه منه بدقة، لكنهم بلا شك دأبوا على وصفه ب “إنه رجل يملك قدرة كبيرة، وينبغي علينا أن نقنعه بالعمل معنا، وعندها سوف نرى ما هي مستويات قدرته، ربما كان بوسعه أن يصوغ أخبارا لصالحنا، أو لعل بوسعه أن يعرّفنا إلى اشخاص يمكنهم مساعدتنا بشكل أكبر”.
سايمون: لقد انعموا عليه باسم شفري، أليس كذلك؟
رينولدز: فعلوا ذلك فعلاً واسموه آرغو، وهو اسم ناسبه تماماً لأنه كان يستحضر البحار الشهير في الميثولوجيا الإغريقية.
سايمون: دعني أفهم هذا بوضوح، هل سالت النقود بين الطرفين؟ هل مُررت أيّ معلومات؟
رينولدز: لم يكن بين الطرفين أي تداول نقدي، السوفييت اعتمدوا على التجنيد الأيديولوجي، وفي هذه الحالة اشتمل الاتفاق على أجزاء من عقيدتهم السياسية وبعض برامجهم التي وافق همنغواي على أن يتبناها. كان هناك بعض التداخل، فما قبله همنغواي كان جزءاً من العقيدة المضادة للفاشية، وهي عقيدة مشتركة بين الجميع ولا خلاف حولها، وحصلنا على معلومة من أضابير السوفييت تفيد بعدم تمرير أي معلومات سياسية ذات أهمية.
سايمون: الولايات المتحدة الأمريكية والسوفييت كانوا في جبهة واحدة إبان الحرب العالمية الثانية، وهنا باتت طموحات همنغواي مفيدة للمخابرات الأمريكية أيضاً، تسحرني هنا فكرة همنغواي بتسليح لاعبي جاي آلاي!؟
رينولدز: (ضاحكاً)، إنها فكرة مجنونة، وليس بوسعي تخيل أحد لاعبي جاي آلاي يقوم بهذا الدور…
سايمون: إنها تبدو مواجهة تخيلية بين غواصة ألمانية عالية التسليح محكمة التقنية وبين قارب صيد على متنه همنغواي…إنها مجرد مزحة في النهاية!
ميريل همنغواي حفيدته المولودة على شواطئ كاليفورنيا عام 1961، والتي رشحت لجائزة اوسكار عن دورها في فلم مانهاتن للمخرج ودي آلان عام 1979، قد انتجت فيلماً وثائقياً تلفزيونياً عن عائلة همنغواي ولعنة الجنون والكآبة والانتحار التي تطارد أفراد تلك العائلة. عرض الفيلم أول مرة عام 2013 ضمن مهرجان سندنس، وتولت تسويقه الإعلامية الامريكية الشهيرة اوبرا وينفري. الحفيدة المشاكسة تشير بشكل غامض إلى تحرشات جنسية صدرت عن جاك همنغواي والدها ببناته! ومن الصعب حقاً قبول هذا الايماء الذي صدر عن ميريل في معرض حديثها عن تلك التجارب التي تعرضت لها اختاها مارغو وجوان في طفولتهما، لكنّها في النهاية شاهد عيان، وحسب افادتها، فهي قد قضت سنوات عمرها من سن السابعة حتى سن السادسة عشرة تشارك والدتها الفراش…هل كان هذا هرباً من الأب المولع جنسيا ببناته؟ هذا ما تقوله ميريل. ولم يتح لي مشاهدة الوثائقي، لكني تعرفت على محتواه بشكل عام من خلال تريليرالفيلم، وهو يبدو إلى حد كبير محاولة من الحفيدة لعرض وقائع الجنون والغرابة التي وسمت حياة هذه السلالة.
كل مشهد انتحار يثير سؤلاً كبيرا حول سبب الانتحار، وفي حالة همنغواي تتناقض إجابات السؤال وتختلط بوقائع حياته. صديق همنغواي أ. إي. هوتشنر تساءل عن سبب انتحار شخص “يعتبره أغلب النقاد أهم كتّاب القرن العشرين، وهو رجل يعشق الحياة ومسكون بروح المغامرة، وفنان عبقري، وحائز على جائزة نوبل وجائزة بوليتزر، وهو بالغ الثراء ويمتلك بيتاً في جبال ايداهو حيث يقضي الشتاءات في الصيد، ويملتك شقة في نيويورك، ويختاً انيقا صنع خصيصاً له لصيد السمك، وشقة باذخة في منطقة رتز الفاخرة بعاصمة الاناقة والنور باريس، وبيتاً في فينيسيا، وزيجة مستدامة وأصدقاء في كل مكان”، ثم يمضي هوتشنر للسؤال: “لماذا يضع هذا الشخص رصاصة في رأسه؟”.
لكن همنغواي في نهاية حياته كان يعاني على مستوى صحته العقلية وصحته البدنية، فقد أصيب خلال حياته بالملاريا والدزنتري وسرطان الجلد وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع كولسترول الدم. كما عانى من ارتجاجات دماغية لم يشف منها، فصار يعيش صداعاً مزمناً، وضبابية في الوعي، وطنيناً متصلاً في أذنيه. ومن عجائب حياته، تعرضه لسقوط طائرة لمرتين، ومن الغريب جداً أنّه نجا منهما، لكنها خلفت فيه تمزقاً في الكبد والطحال والكلاوي، ورضوض وكسور في عدة عظام، وخلع في الكتف، كما خلفت حروقاً من الدرجة الأولى في انحاء جسده. وكل هذا كان يدفعه للأفراط في شرب الكحول لحد وصوله لدرجة الإدمان المرضي.
عقلياً، ورث همنغواي نوبات الاكتئاب الحاد عن عائلته، وفي الأشهر الأخيرة من عمره، غمرته نوبة اكتئاب وبارانويا مدمرة حسب شهادات أصدقائه واقاربه، وبات عاجزاً عن الكتابة، وهو عجز اثار في نفسه حزناً مدمراً، فالكتابة هي محور حياته الأهم، وحين يعجز عنها، تفقد حياته محورها. خلال تلك الأشهر ادخل المشفى والمصحة مرتين وخضع لعلاج الاعصاب بالرجات الكهربائية، وهو علاج يسلب الفنان موهبته وقدرته على الابداع، ويحوله الى كائن خامل غير منتج. وبسبب هذا العلاج انتابت همنغواي نوبة الكآبة المدمرة الأخيرة التي قضت عليه.
كل هذه الأسباب تعزز لدى المتابع قناعات بأسباب انتحار أرنست همنغواي، لكن على المستوى الشخصي، يبقى سؤال مهم وصعب يؤرقني ويثير في نفسي شكوكاً لا نهاية لها: “امتلك همنغواي ترسانة سلاح كبيرة، وفي صبيحة يوم انتحاره، نزل الى حيث مشجب أسلحته، وانتقى بندقية صيد (تعرف في العراق باسم كسرية)، واختارها لينهي بها حياته، لماذا انتحر همنغواي ببندقية صيد “صاجمية” ذات ماسورتين كان يستخدمها في صيد الطيور؟ كيف يمكن أن يوجه المرء بندقية من هذا النوع إلى رأسه ويطلق النار على نفسه؟ هل يوجد سر مسكوت عنه في نهاية أرنست همنغواي؟”
بون 2022