بقلم: إمبرتو إيكو
ترجمة: أحمد الغماري
هل ثمة حربٍ عادلة؟ أحاول هنا أن أفهم ما الذي لم يكن مفهوماً، في الجدل الذي أثاره هذا السؤال، عند طرحه منذ أسبوعين ماضيين، ما أقلق الضمائر، وزاد من ظلال الالتباس قتامةٍ: حتى بتنا كما لو أننا نناقش ما إذ كانت مسألة الخطين المتوازيين أكثر تعقيداً من مسألة الجذر التربيعي. لأوضح بطريقة أخرى، مُسَلِّماً أن العنف هو أذية. لكن هل ثمة أحداث يمكن أن تكون فيها ردة الفعل العنيفة مبررة؟ تجدر الإشارة أن ما هو مبرراً لا يعني أنه عادلاً أو فاضلاً: فليس من العدل بيولوجياً أن تُقطع قدم أحدهم، لكن في حال حدوث غرغرينا لديه، يصبح الأمر حينئذّ مُبرراً.
حتى أنصار اللا عنف – بشكل عام – يسلمون بأن ثمة عنف مبرر: بما في ذلك ما أقدم عليه السيد المسيح إزاء فضيحة تجار الهيكل(1)، بتصرفه الخشن معهم. فليست الأديان السماوية وحدها، بل أيضاً السنن الطبيعية تخبرنا، أنه إذا ما هاجمنا أحدهم أو هاجم أحد أحبائنا أو شخصاً بريئاً أعزلاً، فمن الطبيعي أن نرد بعنف حتى يزول الخطر. بالتالي، فعندما ينادى بأن تكون المقاومة نموذجاً للعنف “العادل”، يُقصد بذلك أنه في مواجهة ضغطٍ قد يصدر عن عنفٍ يمارسه طرفٍ في المقابل، أو في مواجهة استبدادٍ لا يمكن احتماله، يكون ثوران شعب من الشعوب أمراً مبرراً. ولكي لا أثير شكوكاً، فمن المبرر أيضاً أن يرد المجتمع الدولي بعنفٍ على أية ممارسة عدوانية تصدر عن دكتاتورٍ حاكمٍ.
لقد برزت المشكلة هنا من مصطلح “الحرب”. فهو مصطلحٍ يماثل في المقابل مصطلح “الذرة” الذي استخدمته في يوم ما الفلسفة اليونانية، وتستخدمه اليوم الفيزياء المعاصرة، مفصحاً عن معنيين مختلفين؛ فهو في الماضي كان يدل على جسيمٍ غير قابل للتجزئة، وهو اليوم يدل على مجموعة من الجسيمات. ومن يريد أن يقرأ ما قاله ديموقريطوسحوله، منطلقاً من الفيزياء النووية ، أو العكس من ذلك، فإنه لن يستطيع فهم أي شيء من خلاله. إذا ما استثنينا اليوم عدد الذين قضوا نحبهم في الحربين، البونيقية والحرب العالمية الثانية ، فلن نجدُ قواسم مشتركة أخرى تجمع بينهما. لقد تم تحديد معالم ظاهرة “الحرب” منذ منتصف هذا القرن، وفقاً للتوسع الترابي، النتائج المترتبة، القدرة على السيطرة وانعكاسها على الشعوب التي تعيشُ في مناطق أخرى من العالم، ما يعني أن القواسم المشتركة بينها وبين ما عرف بالحروب النابليونية لم تعد تذكر. باختصار، إذ كان في الماضي ردّ الفعل العنيف مبرراً إزاء من يزعزع الاستقرار، ويمكن أن يتخذ شكلٍ من أشكال الحرب ضده، فإن هذا السبيل اليوم لا يخدم هدف ردعه، بل إنه بدلاً عن ذلك سيعمل لصالحه.
لقد خبرّنا على مدار خمسة وأربعين سنة الأخيرة شكلٍ آخر من أشكال الردع العنيف ضد من يُزعم أنه يزعزع الاستقرار (استخدمُ هذه المصطلحات الحذرة، نظراً لأني أعتقد أن طرحي هذا يمكن أن يكون مقبولاً لدى الولايات المتحدة الأمريكية ولدى أيضاً الاتحاد السوفيتي) وهذا الشكل هو الحرب الباردة. فضيعة، بغيضة، مليئة بالعنيفِ المنبوذ أو ما يعبرُ عنه محلياً، انطلاقاً من فكرة أن شن الحروب لن تأتي أبداً بفائدة على “الخيرين”. لقد كانت الحرب الباردة أول مثالٍ على تفطن العالم لفكرة أن “الحرب” قد تغيرت، وأنه ليس للحروب الحديثة قواسم مشتركة مع الصراعات الكلاسيكية، التي عادة تشهد في خاتمتها وقوف المنهزم في جانبٍ والمنتصر في جانبٍ آخر، إلا إذا ما استثنينا أحداثاً نادرة كانتصار بيروسي(2). ولو أني سُئلت قبل شهرٍ مضى عن أي شكلٍ من أشكال رد الفعل العنيف الصائب، الذي أتمنى أنه كان بدلاً عن شّن حربٍ مع صدام حسين، لأجبت: الردعٍ البارد، بجدية صارمة، ومناوشات حدودية، ونظام للسيطرة – وتشريعات طارئة – من شأنها أن تجعل أي صانع غربي يحاول بيع صدام حسين ولو قطعة دبوسِ ورق مصيره السجن المؤبد؛ عندئذ، وفي غضون سنة واحدة ستكون تكنولوجيا الهجومية والدفاعية التي يملكها قد عفا عليها الزمن إلى حد كبير. إلا أن هذا يعد الآن تفكيراً استعادياَ.
لكن التفكير الاستدراكي يخبرنا اليوم، إنه إذ ما هاجمك أحدهم بسكين فإنه من حقك الرد عليه، ولو بلكمة توجهها نحوه؛ لكن إذا كنت سوبرمان، وكنتَ تعلمُ أن لكمتك ستؤدي به إلى سطح القمر، وأن تأثيرها سينجم عنه تحطم قمرنا، وتدهور توازن نظام الجاذبية وانهيارها، واصطدام كوكب المريخ بعطارد…إلخ، عليك أن تفكر قليلاً، فربما قد يكون انهيار الجاذبية تحديداً هو ما يريده. وهو بالضبط ما ينبغي عليك ألاّ تسمح بحدوثه.
هوامش
* نشر هذه المقال سنة 1991 في الصفحة الأخيرة من مجلة الاسبريسو الإيطالية التي كان إمبرتو إيكو ينشر فيها عموده الأسبوعي المعنوان (أظرف مينارفا) منذ مارس 1985 واستمر مثابراً على الكتابة حتى وفاته سنة 2018.
(1)- فضيحة تجار الهيكل، هي حادثة قام فيها السيد المسيح بتطهير هيكل سليمان من التجار. حسب رواية العهد الجديد. لأسباب ثلاث: الأول: كان الهيكل يتألف من فناء خارجي، وكان أحبار اليهود قد أفتوا بعدم جواز التعامل بالنقد الروماني داخل حرمه، لأنها تحمل صورة وثن هو الإمبراطور، فألزموا من يأتي للحج أن يقوم باستبدال العملات مع صيارفة الذين نصبوا خيامهم في فناء مقابل الهيكل، وكانوا يتقاضون عمولة مرتفعة لقاء ذلك. الأمر الثاني: لقد حدث تدنيس للهيكل، فعندما كان المارة يردون اختصار الطريق داخل مدينة القدس، فيمرّون من الفناء. الأمر الثالث: نصبت خيام بيع الذبائح، من حمام وخراف في الساحة. وحين وجد السيد المسيح الوضع على هذه الشاكلة، طرد من هم في الفناء جميعاً، وقلب موائد الصيارفة وباعة الحمام، ولم يدع أحداً يمرّ عبر الهيكل وهو يحمل متاعاَ. وقال حينئذ لهم: “مكتوب أن بيتي بيتاً للصلاة يدعى، أما أنتم فقد جعلتموه مغارة لصوص”. (ويكيبيديا)
(2)- انتصار بَيروسِي أو النصر باهظ الثمن، مصطلح عسكري يرمز إلى الانتصار مع تكبد خَسائر كَبيرة حتى إنه يرقى إلى مَرتَبة الهَزيمة. المُصطَلح جاء نسبة إلى بيروس الإبيري، الذي أدى انتصاره ضد الرومان في معركة أسكولوم عام 279 قبل الميلاد إلى تدمير أغلب جَيشه، مما أدى إلى إنهاء حملته. (ويكيبيديا)