-15-
تم نقلنا إلى خارج المطار، كنا خلال الطريق إلى الشقة التي وعدنا سنأكل ونلهو، قلت لزوجي وأطفالي سوف نحتفل وسأقيم لكم مأدبة من الأكل لن تنسوها في حياتكم وذهب بناء الخيال بعيداُ نرسم أحلاماً تكسرت عند بوابة سجن (سمنيه كامب).
يبعد السجن عن كوالالمبور مسافة مائة كيلومتر تقريباً وهو محصن بسياج من الأسلاك الشائكة وسط غابة كثيفة من الأشجار ويتكون من مجموعة من العنابر الخشبية بدورين، ويفصل بين سجن الرجال والنساء سياج معدني تعلوه أسلاك شائكة.
يتكون سجن الرجال من عدد أربع عنابر والعنبر الخامس خصص للنساء وبما أن السجن وسط غابة كثيراً ما نشاهد الثعابين والعقارب والحشرات.
وضعتُ وبناتي الثلاثة في سجن النساء، أما زوجي وأبني فوضعوا في العنبر المقابل لنا بسجن الرجال وعندما عرفت إننا وضعنا في السجن ملأت المكان صراخاً.
تحلقت حولي السجينات وجلست وبناتي وسطهن أبكي وتصرخ البنات والسجينات يبدو أنهن يتألمن لحالنا وينظرن لبعضهن البعض ويقولون كلام لم أفهمه.
بدأت من هنا أكبر معاناة عرفتها في حياتي بل إن كثيراً من البشر الذين وضعوا في السجون بتهم إجرامية لم يروا ما حل بناء في هذا السجن كانت مأساة حقيقية استمرت ستة أشهر كاملة.
عنبر النساء كان يتكون من دورين نزلنا نحن في الدور العلوي مع النزلاء من النساء اللاتي وصل عددهن إلى ثمانمائة في الدور الثاني وتسعمائة وخمسين في الدور الأرضي ومن جنسيات مختلفة ودخلن السجن بجرائم مختلفة.
والسجن هو عبارة عن تجمع للموقوفين في ماليزيا من غير الماليزيين أي من جنسيات أخرى وجرائمهم تختلف بين التهريب والدعارة والسرقة ومثل حالتنا محاولة عبور ماليزيا إلى أي دولة لطلب اللجوء.
توجد عائلة إيرانية الزوج وزوجته وطفل وطفلة كما يوجد عراقي بسجن الرجال حاول هو أيضاً الهروب عبر ماليزيا، كانت الأسرة الإيرانية قد تنصرت وتركت الإسلام من أجل الموافقة على لجوئها إلى أحدى الدول الأوربية.
وكانت المرأة الإيرانية تمارس التجارة داخل السجن فهي تبيع الخبز الذي يعطى لها ولا يعطى لغيرها من السجناء وتتفق مع شرطة السجن الذين يوردون لها البضائع وتعرضها على فراشها بأسعار باهظة.
كما توجد عائلات بأكملها من كمبوديا وفيتنام والصين وبنغلاديش وهذه العائلات يسمحون لها بلقاء بعضهم البعض بعد كل شهرين أو ثلاثة وكم كان المنظر حزين عندما تلتقي هذه العائلات والتي تعيش في مكان واحد يفصله سياج.
ننام على أرضية من الخشب مليئة بالحشرات التي تنفث منها رائحة كريهة دون فرش أو غطاء وتستيقظ السجينات على صوت السجان في الصباح عندما تسمع صوته وهو يصيح (باريس) وهذه الكلمة تعني تجمع في الساحة المقابلة للعنبر، وتقدم لنا وجبات هي عبارة عن كوب من الشاي وقطعتان من البسكويت عند السابعة صباحاً بعد أن يتم أجراء التمام اليومي للسجينات بصفهم خارج العنبر ثم تعود إلى العنبر وعند الظهيرة تصطف من جديد لوجبة الغذاء التي كانت تتكون من صحن من الأرز الذي تجري فوقه الحشرات وقطعة سردين برائحة كريهة وكان يقدم لنا كوب من الماء الساخن كل يوم وفي العشاء تقدم لهن نفس وجبة الغذاء. وأثناء توزيع وجبة الغذاء أو العشاء تصطف السجينات في صف طويل تحمل كلا منهن الإناء الذي ستتناول فيه وجبتها وأحياناً تنتظر أحداهن الأخرى حتى تنتهي من تناول وجبتها ثم تأخذ منها صحنها وكثيراً ما تحدث مشادات وضرب بين السجينات متى تأخرت أحداهن في تناول وجبتها فتتدخل الشرطة لحل النزاعات.
وتستبق السجينات فيما بينها في الوقوف أولا في الطابور تحت إشاعة الشمس المحرقة وفي درجة حرارة عالية ودرجة رطوبة لا تحتمل، وأحيانا تتدافع بشدة فتسقط بعضهن.
وبعد أن تتناول السجينات طعام الغذاء أو العشاء يأتي دور طابور غسيل الصحون والآواني وطابور المياه فتحمل كل منهن زجاجة من البلاستيك المتسخة لتملائها من الحنفية وعندما تنقطع المياه تقوم سلطات السجن باحظار براميل وتقوم إحدى السجانات بتوزيع المياه بحيث تحصل كل سجينة على لتر واحد من المياه ترى كيف تغسل وتشرب وتدخل الحمام بلتر واحدة؟؟؟ ولمدة أربع وعشرين ساعة.
لم أتناول أي وجبة غذاء داخل السجن ولم أقف في الطابور لغرض حضور التمام منذ دخلت. فقد كان إبراهيم يزورنا في كل جمعة ويحضر لنا بعض المأكولات التي كنا نتناولها خلال أسبوع.
شكت السجينات من معاملتنا في إدخال الآكل لنا فمنعنا من استلام ما يحضره إبراهيم فأعلانا إضراباً عن الطعام وتدخلت الشرطة لإرغامنا على الأكل ولكن صمدنا لمدة عشرة أيام كنت خلالها أقوم بتغذية بناتي سراً وذلك بخلط البسكويت بالحليب حتى سمح لنا باستلام ما يحضره لنا صديقنا إبراهيم.
أما إذا ما سافر إبراهيم فقد كان يرسل لنا صهره (نبهان) ليحضر لنا احتياجاتنا ومبلغ من المال لإجراء الاتصالات يومياً مرتين بمنزل إبراهيم وكان الاتصال يتم من داخل السجن بسرية تامة وباستغلال من قبل أحد السجانيين الذي كان يمنحنا هاتفه النقال مقابل مبلغ من المال ويختار لنا مكان مظلم ومغطى في أحدى زوايا السجن لنجري مكالمتنا اليومية لمنزل إبراهيم حتى يطمئن إننا لازلنا أحياء.
لا توجد في السجن حمامات بحوائط، بل كانت مفتوحة على بعضها وبدون سقف حتى تكون تحت نظر رجال الشرطة، كنت أستعمل الحمام ليلاً وكنت أطلب من زوجي أن يقف على شرفة العنبر المقابل لحراستي، كان ذلك يمنحني بعض الاطمئنان لأحتمي من لصلصات عيون رجال الشرطة، أما الباب فتقف بناتي الثلاثة يمسكون به، وعند الاستحمام كنت أستحم بملابسي كاملة، ثم أقف في الشمس لأجفف ملابسي وهي فوق جسمي، وكثيراً ما كانت تنقطع المياه ولعدة أيام فتخرج من الحمامات روائح كريهة.
كنت كثيراً ما أتحدث مع زوجي من خلف السياج وفي مرات عدة قمت بفتح السياج المعدني بواسطة آلة قص الاضافر، وكان يسمح لنا بالالتقاء وجه لوجه من خلف حائط قصير كل شهرين غير إن أبني الصغير كان يتجول بين عنبر الرجال وعنبر النساء.
في أحد الأيام كنت أتحدث مع زوجي عبر ثقب صغير في السياج الفاصل بين سجن الرجال والنساء وإذ بأحد الشرطة يمسك بيدي فنفضته نفضه قوية وقلت له بالإشارة سوف أقطع يدك في المرة القادمة وفي هذه الأثناء جرت بيننا حشرة صغير دهستها برجلي وقلت له وسوف تصبح هكذا، فهم رجل الشرطة إشارتي وأبتعد عني.
كانت أحاديثي مع زوجي تدور حول خروجنا وما نحن فيه من معاناة فكان كثيراً ما يرفع معنوياتي وبعض الأحيان أجده بمعنويات ضعيفة فأشد من أزره وأبعث فيه الأمل بقرب يوم الفرج والخروج من السجن.
وأحياناً كنت أحكي معه عن الأكل أقول له عندما نخرج من هنا سوف أعد لك وجبات لم تتذوقها من قبل وأعدد له تلك الأكلات التي سأقوم بإعدادها.
كنت أقول له سوف أعد لك العصبان والبراك والشربة وكثير من الأكلات الليبية الأخرى، كان زوجي يستمع باهتمام ويرد أنت تحلمي.
على ذكر الأكلات التي يعدها السجن للسجناء لم أرى تنوع في الوجبات ولم أرى غير الأرز وتحتفظ السجينات بالأرز في عنبر النوم وكثيراً ما كانت تنام البوبريصات في تلك الصحون وعندما ترغب السجينات في الأكل ما عليها إلا أن تزيح البوبريص بكل احترام وكنت أتسأل دوماً لماذا ؟ وأتعجب !! حتى عرفت إن في ديانة الفيتناميين يعتقدون إن الإنسان عندما يموت تنتقل روحه إلى البوبريص لذا تجدهم يحترمونها جداً.
في أثناء السجن تورمت رجلي نتيجة لسعة حشرة وأصبح لونها أسود حتى عجزت عن الحركة، لم يقرر طبيب السجن نقلي إلى المستشفي فقد رفض ذلك حتى عندما تحدث معه صديقنا إبراهيم الذي صعق عندما شاهد رجلي وانهمر بالبكاء.
في أثناء مرضي كانت بعض السجينات وخاصة الصينيات تعتني بأطفالي فكانت تنظفهم وتغير ملابسهم وتهتم بهم فالسجينات الصينيات ودودات ويحملن أخلاق حميدة.
وعندما نجحت محاولاتي لنقلي للمستشفي نقلت إليه مكبلة بالأصفاد وبقيت طيلة وجودي به مقيدة بالسلاسل ولم يفلح الأطباء في معالجة المرض، مكثت في المستشفي تحت الحراسة وكانت يدي دائماً مربوطة بالنافذة، وعدت إلى السجن كما ذهبت، وقد شفيت رجلي فيما بعد.
اعترت أبنتي الصغيرة حرارة مرتفعة فذهبت مسرعة إلي مكتب رجال الشرطة وعندما دلفت إلى المكتب وجدت السجان منهمك في ملاعبة أمرآة أسبانية وفي وضع غير لائق وبالإشارة أخبرته بأن أبنتي تعاني من ارتفاع شديد في الحرارة فأشار بيده بمعنى بعدين فصرخت في وجهه ونقلتُ وابنتي إلى المستشفى وهناك ربطوني بالحديد إلى النافذة وقمت برعايتها بيد واحدة طيلة بقائها في المستشفى.
على ذكر الأوضاع الغير لائقة كنت كثيراً ما أشاهد أشياء فاضحة بين السجينات ورجال الشرطة، وهذا الأمر ضايقني جداً خاصة وإن بناتي صغيرات وهن يرافقنني دائماً وكنت دائماً أتحاشى أن يرين مثل هذه الأشياء.
قائد السجن – الكومندار- ورجال الشرطة كانت معاملتهم لنا قاسية أول الآمر ولكن بعد مرور فترة من الوقت يبدو إنهم فهموا قصتنا فأبدوا تعاطفاً معنا غير إنهم لا يستطيعون فعل شيئا لمساعدتنا، وكانت لغة الحوار معهم بالإشارات ثم أصبحت أبنتي الكبرى تتكلم اللغة الماليزية فكانت تقوم بعملية الترجمة فيما بعد.
وشرطة السجن قاسية في معاملتها مع الآخرين وقد رأيت بأم عيني عملية قتل أحد السجناء الكمبوديين بضرب رأسه بأخمص بنادق الشرطة عند محاولته الهرب عبر أنبوب المجاري المؤدي إلى الغابة المحيطة بالسجن، فقد دخل في الأنبوب الضيق وفي آخره خرج رأس السجين الكمبودي ولم يستطيع أخراج باقي جسده، ولما علم رجال الشرطة انهالوا عليه ضرباً حتى تكسر رأسه وفارق الحياة ثم دفن بمقبرة السجن.
وذات يوم تمرد المساجين من الرجال وهاجموا بوابة الخروج وقفز بعضهم من السياج ووقفنا نشاهد عملية مواجهتهم بإطلاق عيارات نارية، وقطع التيار الكهربائي عن السجن الأمر الذي بعث فينا الخوف والفزع وبقينا في الفناء حتى الصباح.
لقد كانت تجربة السجن تجربة قاسية لم أذق طعم النوم ليلاً فقد كنت أسهر مستيقظة حتى الصباح أراقب بناتي، وفي النهار كنت أحصل على قدر من النوم شرط أن يقف زوجي في شرفة المبنى المقابل يراقبني أثناء النوم وإذا شاهد أحد رجال الشرطة يدخل العنبر كان يطلق صفارة الإنذار وكنت أرد عليه بالوقوف في النافذة أو ألوح له بقطعة قماش من خلالها.
السجن كان يحتوي عدد كبير من النساء السحاقيات وعند الليل يمارسن هذه العادة بشكل علني وأمام مرأى من رجال الشرطة وبقية السجينات، كنت أحمل بناتي خارج العنبر أجلس بهن حتى ينمن ثم أدخلهن، وكنت أصر دائماً على أن لا يرن مثل هذه المشاهد الغريبة، وفي بعض الأحيان يمارسن عادتهن تلك عند الظهيرة، وكنت كثيراً ما أنبه رجال الشرطة لمثل هذا الفعل لأننا مسلمين ولا يمكن لبناتي أن يشاهدن هذا فتتدخل الشرطة وتضرب الفاعلات.
وتنتشر بين السجينات الكمبوديات والفيتناميات عادة غريبة فهن يجلسن على سلم الدرج مشكلين سلسلة بشرية يبحثن عن القمل كلاً في شعر الأخرى وكن يقرضن القمل بأسنانهن وعندما لا تجد أحداهن قمل في شعر التي أمامها تضع هذه القمل الذي حصلت عليه من شعر التي أمامها في كفها لتقوم الجالسة خلفها بلعقه بلسانها منظر غريب ومقزز ولكنه في نظرهم وجبة شهية ولكني كنت أجلس لمشاهدة هذا المنظر.
أحياناً تجد نفسك أمام عادات وتقاليد وأفعال غريبة خاصة وأنت تقيم مع بعض من حثالة تلك الشعوب، فقد وضعني القدر في السجن الذي تجمعت فيه نساء من عدد كبير من دول العالم، قد يكون جمعني بهم السجن ولكن ما الذي جمعهم هم مع بعضهم لقد اجتمعوا على طريق الرذيلة.
أغلب السجينات لا يأبهون لما يفعلون فقد تربوا وعاشوا في بيوت الدعارة وهذا الأمر لا يروق لي فكثيراً ما كنت أصطدم ببعضهن.
ذات يوم تهجم عليّ مجموعة من النساء الفلبينيات، كان عددهن سبعة أو ثمانية تقريباً واشتبكن معي لا لشيء وإنما للمعاملة التي أصبحت أعامل بها من قبل بعض الشرطيات بعد أن قمنا بالإضراب عن الطعام، وأستمر الصراع ولكن الشرطة فكت الاشتباك بيننا عندما علمت، وأطلقت صفارات الإنذار، وسمع زوجي صراخي فقفز من العنبر المقابل ولكن الشرطة أمسكت به وأعادوه إلى عنبر الرجال.
دخلت السجن امرأة مجنونة أو إنها أرادت أن تكون كذلك حتى تحصل على إذن لنقلها إلى مكان آخر كونها تعاني الجنون، كانت تلك المرأة تعض النساء اللائي من حوله، وذات يوم أمسكت بابنتي وحاولت قذفها من الدور الثاني وهددت رجال الشرطة بقذفها غير إن أحد رجال الشرطة أمسكها، أصبتُ بهستيريا عندما تم إنقاذ ابنتي..
ذات يوم ابلغنا من قبل شرطة السجن بأن أشخاص من السفارة الليبية في ماليزيا يرغبون في مقابلتنا، رفضنا وزوجي مقابلتهم أو الاستماع لما أرادوا قوله، وعلمنا إن نبهان صهر الكابتن إبراهيم كان قد التقى مجموعة من الطلاب الليبيين الدارسين في ماليزيا وأخبرهم عن قصتنا فقاموا بإبلاغ السفارة الليبية .
لقد أصبحت أجسادنا نحيلة ومتسخة. وملابسنا أسمالاً باليه تدعوا إلى الشفقة، سرقت ملابسنا فلم نعد نجد ملابس نرتديها، وذات يوم خرجت إلى فناء السجن والسير قليلاُ وسط بعض الأحجار المتناثرة ولم أكن أعرف إنني أسير وسط مقبرة ثم جلست على إحداها وعندما أردت القيام لم أستطيع وترهلت قدماي وأصابتني ارتعاشه.
كانت إحدى النساء تراقبني فأسرعت وأمسكت بي قبل أن أسقط على الأرض ورشوني بالماء حتى أستفيق، أعتقد أنني أصبت بالانيماء نتيجة الضعف وعدم الأكل غير إن نساء السجن يعتقدون إنني جلست على قبر أحد ضحايا السجن الذي دفن هناك منذ وقت قريب.
تعليق واحد
[…] اقرأ: رواية ديجالون – الحلقة 13 […]