المقالة

ابتسامتنا المفقودة

الزهراء البُقار

من أعمال التشكيلي العراقي سعد علي

تُكتسى البدايات غالبا بجمال دافئ، وتظهر حبلى بالطمأنينة، بشكل يُشبّع الإنسان بالأمل والتفاؤل، فسرعان ما نتصالح مع ذواتنا المنكسرة، ونقيم علاقة جديدة معها. الصباح كغيره من البدايات المؤنسة يُوجّه العاطفة إلى الخير، فبقوله تعالى: {{والصبح إذا تنفس}} كأن الصباح مادة جمالية جاهزة، لا يتطلب منا إلا الانصياغ لمفرداتها؛ للانطلاق نحو يوم أفضل، وبدورنا نميل نحن أصحاب “الحس المرهف” للأشياء التي ترتبط بأذواقنا ومخيلاتنا، ونبتسم مباشرة مع أول إشراقة، وكأننا نتزين بريشة الفنان وقلم الشاعر.

هذه الصورة المنطقية -إلى حد ما- سرعان ما تصطدم بفظاعة الواقع، فربما تصلح للصباحات السويسرية أو الباريسية المدهشة، حيث التهيئة البيئية والاجتماعية، أما هنا الكل مستعد لقتل ابتسامتك. وحتى نتفادى العوامل الاجتماعية والبيئية التي نضعها دائما كأولى المبررات، وأشدها تأثيرا على سلوكياتنا، لنلتفت إلى الحالة السودانية. سألتني صديقتي السودانية يوما، عن سبب الجمود العاطفي والحِدّة التي تظهر على ملامح وسلوك أبناء مجتمعنا صباحا، وهي تقارن ذلك بمجتمعها الذي يخرج بطاقة إيجابية رهيبة رغم قساوة الحياة، احتججت بالعوامل السابقة خجلا منها، رغم أني أجزم على أن السبب يعود لإهمال البذرة الروحية التي زرعها الله بنا، والمتمثلة في حاجاتنا العاطفية، وبطبيعة الحال كبرنا متجاهلين ألا محسوسات التي كان من المفترض أن تنمو بدواخلنا، وعاجزين بالتالي على إخفاء أو ترميم ملامحنا المضطربة. فتكشيرة الصباح ما هي إلا انفعال حسي يعبّر عن مكنوناتنا الداخلية المُهملة.

عملت قبل سنوات بإحدى الصحف لمدة ثلاثة أشهر، زينتُ صباحاتها بطبيعتي الشاعرية والحيوية -حينها- فالعمل الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الحس الكتابي يجعل صاحبه -لا إراديا- يخلق حالة من الروقان لنفسه، ناهيك عن التهيئة الصباحية التي يحوّط بها الخالق الإنسان، دخلت مذ اليوم الأول بابتسامة لزميلات المستقبل، ولكن قاطعتها صلابة شديدة جعلت من الصعب تقديم نفسي أو احتمالية انتظار تقديم الزميلات لأنفسهن، كجزء من الطقوس الطبيعية بين البشر، جلست واستهلت تقريري الأول عن “أهمية وجود الأزهار في حياتنا” ومرت تلك الفترات القصيرة من مفاتيح الأيام وأنا أسمع منهن “صباح الخير” بعيون تنظر إلى المجهول، وكأنني لست المعنيّة بهذه الكلمات التي خرجت للتو. ولأنني كنت حريصة على تزيين صباحي كما أسلفت، حيث ابتسم، وأحييهن باهتمام شديد، وأفتح الشبّاك الكبير المطل على الشارع الهادئ والأشجار الجميلة، وأشغل الموسيقى، كانت النتيجة اتهامهن لي باتباع “تصرفات الشعراء الغريبة” بحد وصفهن، وتلاشى حُلم التأثير. بالتأكيد أن المعاملة السيئة تؤثر سلبا على السلوك البشري.

كما أن التجاهل كأحد أساليب العنف اللفظي؛ يؤدي إلى عرقلة التطور السليم للعلاقات الاجتماعية ويقتلها، وهذا ما حصل معي. اليوم صباحا وأنا جالسة في السيارة، ابتسمت لي إحداهن بشكل مُتعنّي وجميل ومفرط في اللباقة والمشاعر الوجدانية، حتى شككت أن وراء تلك الابتسامة مغزى ترمي إليه، ابتعدت الغريبة دون أن أبادرها بشيء من المجاملة، وتركتني وأنا في حالة من الصدمة، والدهشة، وغارقة في التفسير والتعليل، ثم تأنيب الضمير. كما أن التلطّف الصباحي الذي أحاول تجميل يومي به في معظم الأحيان، يتفادى منظومتنا الاجتماعية والبيئية، ويتجاوز الانفعال ألا إرادي الذي يفرضه صفاء الذهن وسكون العالم حولي، إلى إصرار، وقناعة داخلية، وإيمان عميق بمبدأ التعامل الإنساني السّمِح، والحق أقول أن القصة المذكورة أعلاه، كانت بمثابة (درس) أبعدني -إلى حد ما- عن عادتي الطبيعية-الغريبة، والسلوك الأخلاقي والإنساني الذي لا يختلف عليه اثنان، اللهم إلا عندنا، فقد يكون “تطفّل” أو”ثقالة دم” أو يُتّهم صاحبها بالجنون و”الاستفزاز”، فما أشد استفزاز ذوي اللطافة، واللباقة، والعاطفة المُفرطة، ككاتبة هذا المقال.

مقالات ذات علاقة

انعدام الحماية والتحالف الموضوعي

عمر أبوالقاسم الككلي

الهوية الفطرية

محمد دربي

خذ بالك من خوتك

سالم العوكلي

اترك تعليق