عندما اخترع الإنسان الكتابة قبل الميلاد بألوف السنين، مستعملا المسامير في الرسم للتعبير عمّا بداخله، أرادها لغة يتواصل بها مع الآخر، وليخبئ فيها نتاجه التاريخي الثقافي والمادي من الضياع، وعندما اخترع الأبجدية وظهرت “التيفناغ”، كانت مهمة الكتابة منوطة بالمرأة خاصة، ولد الإنسان في الحياة دون تجنيس للمهام، وجد الحياة خاما طاهرة من كل فكر إلا فكر الطبيعة الحر، تفرض الطبيعة قوانينها الحتمية متنقّلة بين السبب والغاية، بطريقة تفرضها صيرورة قوانينها، دخلها الإنسان مع طبيعتها بقانون الغاب، فسار به إلى صيرورته ليتمدّن ويتطوّر ويفرض عليه واقعه طريقة تفكير تتلاءم ودرجة تمدّن هذا الواقع وثقافته وأخلاقه، لترتبط النظرة للمرأة الكاتبة العربية حسب الموروث والثقافة المحيطة.
إذا كانت الكتابة صوت الإنسان، ستكون كتابة المرأة في المجتمع كما يرى صوتها في الواقع، هنا ستنتج لنا خيارين، إما كتابة عوراء محاصرة وحيية لغة وموضوعا، وإما كتابة متمردة تصرخ للخروج من نفق الانغلاق، فبدأ نتاجها خجولا كمّا ونوعا لا يخلو من استثناء، ولأن الكتابة في حد ذاتها ثقافة، ولأن الكتابة لم تكن من ثقافتنا، ولم تكن ظاهرة في مجتمعنا كما لم تكن القراءة، نأت بعض النساء عن الكتابة دون أسباب مع توفر ظروفها.
بدأت المرأة العربية منتصف القرن العشرين تعبر عن ذاتها ومشاعرها وطموحها البسيط، وعن الظواهر الاجتماعية السلبية، والسير والأحداث التاريخية، ثم لتعبر الكاتبة بمسؤولية أكبر عن ذوات ورغبات غيرها، وتجتازها الأكثر تحررا إلى رغبات الإنسان أيّا كان، وتعرّي المسكوت عنه. استهلت الكتابة بشخصيات واتتها ظروف تنويرية، فظهرت كاتبات أدب وشاعرات، منهن: مي زيادة، سهير القلماوي، عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، فدوى طوقان، نبيلة إبراهيم، نوال السعداوي، غادة السمان، رضوى عاشور، مرضية النعاس، وأخريات، لتملأ اليوم الساحة أسماء كثيرة، لا يمكن حصرها.
الآن.. لم تعد “قضية المرأة” هي هاجس المرأة الواعية بمسؤولية الأدب والكتابة، صار هاجسها الإنسان والحروب والتمييز العنصري والفساد والعنف والمهجرين والإرهاب بشقيه الفردي والدولي، صارت بالكتابة تعالج مسائل القيم والفكر والوجود.
تنتمي الكاتبة إلى إحدى شرائح من ثلاث، (الأديبة المبدعة، أو الناقدة أو الأكاديمية)، لتتداخل وتتقاطع، والطبيعي أن يفوق الإنتاج الإبداعي الكتابة النقدية، لكن من غير الطبيعي أن يكون الفارق إلى درجة تجعل من النقد عاجزا عن مواكبة النتاج الإبداعي كما الحال، وهنا القصور النقدي يطال الجنسين. النتاج الإبداعي بكل أنواعه اليوم كبير جدا وغنيّ، بالتأكيد كمّا، وحتى كيفا بحالات فردية، تشير إليه المشاركات بالجوائز العالمية ونتائجها، إذا أخذنا أنها المقياس المطروح على الساحة حاليا، وفي شح القراءة النقدية التي لو توفرت لربما أبانت عن عدد أكبر من المبدعات. هذه النتائج التي أظهرت أن التميز الإبداعي لم يعد قاصرا على جنس بعينه. أما الحديث عن إمكانية وصفنا لكاتبة عربية بالمفكرة، فهذا سؤال فيه بعض غرابة مع احترامي للسائل!
إذا كان الفكر هو تفعيل العقل وإعماله في مشكلة أو قضية ما، للوصول في كل ما يتعلق بتفاصيلها وتوابعها، وإذا كان رؤية، ما دامت الفكرة هي الصورة الذهنية للشيء، فإن كل الكاتبات المبدعات والأكاديميات، وخاصة الناقدات، صاحبات فكر وإن تفاوتن في ذلك، بالطبع ليست كل صاحبة فكر مفكّرة بالمعنى الفلسفي، لكنها تلك التي حققت المفهوم الفلسفي الذي يرتقي بالمفكر إلى مناقشته للقضايا بأكثر عمقا وتعقيدا، فعلى المفكر لينصف طرحه ألا يخضع للفكرة المسبقة فنحن عرفنا الله بالعقل، وأن يتحرر من القديم والمحدث، وأن تكون نظرته إنسانية كونية، لا تعني بمجتمع، إلا إذا كان هذا المجتمع هو نفسه محل النقد، وإذا كان المفكر ذا رؤية وتطلعات نقدية عالية بفعل مهني عال وإن لم تتحرر بعض مفكراتنا من سلطة الفكرة المسبقة، فهنا نجد عددا قد لا يعتد به من المفكرات، لكن لا يمكننا حصره في واحدة! سأذكر للمثال وليس للحصر نماذج منهن لحقب ورؤى متباينة، لا يهمنا هنا إلا كونهن مفكرات، بغض النظر عن طبيعة هذا الفكر اتفقنا معه أو اختلفنا، فأمام الطرح النير للفكر علينا ألا ننجرّ لتلك التفاصيل الصغيرة فتعيقنا، فليتعامل كل منا بما يناسبه منها بعيدا عن الجوهر، وعندما نتحدث عن الفكر علينا أن ندرك أن الله دعا إلى العلم، ولا يتأتى هذا إلا باستخدام العقل.
سأبدأ بالدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) أستاذة التفسير، ولها أعمال أدبية وروائية، وأول من حاضر بالأزهر، وخاضت معركتها ضد التفسير العصري للقرآن، درّست الشريعة بجامعة القرويين بالمغرب، وفي عين شمس، والإمارات، والرياض، والخرطوم، وأم درمان، ووصلت مؤلفاتها إلى أربعين كتابا.
وحين نتناول المفكرات العربيات لا بد أن نذكر الدكتورة “نوال السعداوي”، الأديبة والمبدعة والطبيبة والباحثة في نقد الأديان، وحقوق الإنسان، أيضا وصلت مؤلفاتها إلى أربعين إصدارا.
الكاتبة والمفكرة الجزائرية رزيقة عدناني أستاذة الفلسفة التي تفرغت للكتابة، متخصصة في علوم الفلسفة والمعرفة والإسلام، تدعو للمصالحة، وتناقش العنف والحداثة والحرية، ولها مؤلفات عن العقل والفكر والفلسفة.
المفكرة الفيلسوفة المغربية حورية سيناصر عالمة الرياضيات، نالت دكتوراه الدولة من جامعة السوربون، ودرّست فيها، وهي مديرة أبحاث في المركز الوطني الفرنسي، ومديرة دار “فرن” المهتمة بالبحوث العلمية الفلسفية. المفكرة حورية سيناصر رغم ثقافتها الفرنسية فهي تؤمن بهويتها العربية المغربية، وترى أن المسيحي العربي أقرب إلى المسلم العربي منه إلى المسيحي الغربي.
هذه فقط بعض نماذج لمفكرات عربيات، ومثلما تطورت حركة الإبداع نتأمل تطور الحركة النقدية والفكرية عامة، دون جنس بعينه، فالنهضة لا تتجزأ في محاورها فكيف في البشر!
أختم لأقول ثمة أشياء في الفكر يجب أن تكون مفتوحة النهايات كما الرواية، النهايات المفتوحة في الجدل تعطي مساحة للقبول بالآخر، أن يراعي تفكيرنا الثوابت، وليس بحسم نتائجها بحدة كما نقطع نهاية شريط بمقص، نحن في مرحلة مأساوية وأزمة فكرية لا تسمح بوضع نهايات قسرية للأفكار، أما الحسم سيأتي تلقائيا كنتيجة لهذه المقدمة. نحن في أشد الحاجة لخلخلة الفكر وتحريكه، وإشعال النيران تحته ليلتهب ويبدع، اليوم دعوا الفكر ينتج. المهم نحو الحرية، نحو الاعتراف بالممكن، الإبداع كما الفكر غير قابل للتأطير، لا يخضع لشروط، قابل للطيران بلا حدود.