أمّ خليفة التليسي باعت ماكينتها باش يشري كتابات، وبعد ماولى مدرس وقرّا شوية، جي قاللها سيبت، قعدت تبكي، قاللها: تبيني نطلع الدكتور والمهندس والمحامي ونقعد أني مدرس ؟ مشي خش أديب.. !
جدتي الحاجة هاجرة القريتلي أطال الله عمرها.
خليفة التليسي هو يقينا أول كاتب أعرف اسمه، حتى قبل أن أعرف ما معنى الكاتب.
كنت في الرابعة من العمر عندما حفظني أبي الأبيات الأُوَل من قصيدته [وقف عليها الحب] وكثيرا ما طُلب مني إنشاد هذه القطعة، وقد سمعت نفسي أنشدها فيما بعد على شريط سجله لي الوالد في فترة الطفولة.
وعلى ديوانه، وعلى ديوان طاغور الذي ترجمه، وعلى غير كتاب من المكتبة كنت أجد اسمي مكتوبا، وكان الوالد – مرة أخرى – منذ ولادتي يكتب اسمي لا اسمه هو على الكتب التي يقتنيها.
وكان يحكي كلما ذكر عن عصاميته، ودراسته على ضوء البلدية، وتكوينه الصارم الجاد.
وكنت مازلت طفلا ولكن أكبر قليلا حين سمعت أمي تقول: أمّ خليفة التليسي، فقلت ضاحكا: وهل فوق الأرض أحد أدرك أم التليسي، فضلا عن كونها هي نفسها حية، وكانت صورته (في أحد كتبه) بالجرد، أبيضَ الشعر، تخيل إلىّ أنه هو أكبر الأحياء على وجع الأرض، فلم أفهم كيف ترى أمي أمه، فضحكت مني، وأكدت لي أن أمه حية ترزق، وأن صحتها جيدة لولا فقدانها البصر في ذلك الوقت، رحمها الله.
ولما تعلمت القراءة، كان التليسي أهم الكتّاب الذين عرفتهم في مرحلة مبكرة، في طور الانتقال من الاقتصار على القرآن قَصَص الأطفال والكتب الدينية، إلى المطالعة بمعناها الواسع، بل كان أحد كتاب قليلين شكلوا وجداني، وخلقوا فيّ ميلا أدبيا معينا، لا يكاد يختلف عن وجداني هذا اليوم، وعن هذا الأثر أخص بالذكر كتابي [قصيدة البيت الواحد – مختارات ومقدمة ]، و[هكذا غنى طاغور – ترجمة ومقدمة ].
أما أولهما فكان كتيبا صغيرا (مدعوما) في سلسلة [كتاب الشعب] اشتريته من مكتبة البستان بربع دينار، وكان مفتاحا ثمينا مهّد لي الطريق نحو اقتحام التراث الشعري العربي القديم بالقراءة، فقرأته على هدي من هذا الكتيب (واقتنيت فيما بعد الكتاب كاملا ضمن مختارات التليسي الستة)، أو هذه الرسالة وفلسفتها في الشعر، ومعنى الشاعرية فيها، واللمحة الدالة، والتكثيف، وقيمة التراث الشعري العربي، إلى ثروة شعرية من المختارات مازالت تسعفني في كل حادثة، وما زلت أسمع البيت فأقول هذا من مختارات قصيدة البيت الواحد.
وكان يمكن للبيت الواحد أن يكون نكبة على ذائقتي الشعرية بسبب الوجهة التي اتخذتها بعده في القراءة لولا أن كان في مكتبة المنزل [هكذا غنى طاغور ]، وكنت من قبله بأثر “جو” البيت الواحد، رافضا هضم الشعر الحر، وكان التليسي، من طريق غير مباشرة منقذي من نفسه هذه المرة، فإني فتنت بأجزائه الثلاثة، وأدمنت قراءتها، وفي لحظة مازلت أذكرها، وجدت نفسي أقول إن هذا شعر يهز الكيان، ولا وزن فيه ولا قافية، بل إني لا أقرأه في لغته الأصلية، وكانت خطوة أولى نحو العالم الرحب للشعر بمعناه الواسع.
وكما رسخ التليسي في نفسي الثقة في قيمة التراث العربي مبكرا، فإن مكتبته التاريخية هي ولاشك من أهم عوامل تعلقي بكل ما يخص التاريخ الليبي.
هذه إشارات قاصرة ومقصرة دفعني إلى الحديث عنها ذكرى وفاة الأستاذ السابعة، فعليه رحمة الله، وله خلود الذكر على ما خدم به العلم والأدب والوطن والعربية.