من أعمال التشكيلي صلاح الشاردة
سرد

من رواية ”الأطياف الناطقة“

من أعمال التشكيلي صلاح الشاردة
من أعمال التشكيلي صلاح الشاردة

فوضى الكحل المحببة تحيط بالمكان المهيب، تخط الوسوم والإشارات المبهمة، الآثار الداكنة تعلق ببعض أهداب الرمش، تختفي في أضيق مسافة بين الرمش المضطرب والجفن المرتعش، تحرس سواد العين وتتعثر بالحلم في ليل الشتاء الطويل، لم أتعود على غلق حلم خلفه يتعثر عطره وأنفاسه والدمع والعنبر ورائحة غربته، ويعلق في أعطافه الحنين، أطبقت جفوني وتركت له نافذة الحلم مواربة.
أطبقت جفوني وشددت على طيفه المتسرب ورائحة عطره وجبروت صوته الرخيم ذو النبرة الجنوبية العريقة المختلطة بنبرة أهل طرابلس، الزاخرة بمفردات بدو برقة، أطبقت جفوني ثم فتحتها على نافذة واسعة وكبيرة حيث تهب نسائم عليلة خلال شتاء “ديسمبري” رائق في مدينتي البيضاء الجميلة.

تطل نافذتي على حديقة بيتنا الكبيرة، يواجهني السور المرتفع الذي يحيط بمنزلنا ويواجهني طيفه يرتسم كظل رجل ليلي باهر الحضور، يشرق قبل إطلالة أول خيط باهت من ضوء الصباح ويرسل إشاراته الحبيبة في الظلام تحت جنح نور خافت ترسله ذبالة شمعة عاشقة لحظة غياب كهرباء المدينة.
يتقدم ظل الرجل من نافذتي، يقترب فتتراجع خطواتي إلى الخلف، يتقدم أكثر وأكثر وأرى يداً تخط شيئاً عليها، تكتب بسبابة مرتعشة، ثم يختفي كل شيء، يتلاشى الظل واليد وتختفي السبابة لكن عبارة الحب المكتوبة بالبخار المتكاثف على زجاج النافذة تظل ساطعة في ذاكرتي، كنت أدرك أن تلك العبارة الشاهقة المزخرفة بالمشاعر الفياضة تضج في حقيقتها بالخطورة والغموض، تبعتني خطى الظل إلى سريري، اندسست أرتجف تحت الأغطية وظل طيف الرجل مرسوماً على الجدار أمامي كحارسٍ أمين لا يتحرك إلا لكي يتفقد أشيائي الثمينة، شعرت به يندس تحت الأغطية ويتجسس على أغلى ممتلكاتي ويطمئن إلى غنيمته الغالية حتى الصباح، وأنا أرتجف خوفاً وبرداً وحباً.
في الصباح غمغم الطيف العاشق:
– انطلاقة سهم تساوي هدف.

لا أعتقد أن الذاكرة تخطئ، ولا أصدق أن للقلب عثرة ولا يكمن بحال من الأحوال أن يأثم الحلم عندما يكون المبتغى فائق الجمال مثله، لا يمكن أن يكون حضور ذلك الطيف زلة من زلات الروح، أو هلوسة من هلوسات الفكر المشوش بمتطلبات صعبة المنال.
أعلن صباحاً على الملأ، أعلن بصوت مغموس ببحة الاشتياق والهوس والجنون، مغمور في ليلة كاملة من البكاء، البكاء من شدة الحضور والتبدّي والوضوح والسفور لدرجة النقاء، أعلن من شدة جمال الحب وقوة لحظات الانصهار الرائعة.
أعلن أن هذا الطيف حقيقة وواقع وصدق وأن حضوره منزه عن الخطأ والزور والبهتان.. أعلن أنني من شدة واقعيته طلبتُ إليه أن يزول، أن يأفل، يختفي، يحتجب، يغيب.. طلبتُ إليه أن يمتثل لطبيعتي الطينية، أن يذعن لمرارة الواقع، فزمنه يفوق زمني بملايين السنين، طيفه لا يخضع لأبعادنا المكانية، من المنصف أن يعود من حيثُ أتى، من العدل أن ننفصل، طلبتُ إليه أن نفترق.

كانت طبيعتي البشرية الشكاكة تناقض طبيعته، أدميتي آلمته، أنانيتي المفرطة صدمته، غيرتي، ثقلي ناقض خفته، جسدي لم يحتمل وطأة جسده الأثيري الشفاف الخارق لمنافذي، الثاقب لفكري وخواطري، جسدي مشدود إلى الأرض وطيفه سابح في السماء، القيود المفروضة على تكويني الطيني تخشى طبيعته الهوائية الحرة الطليقة.
تمتم وهو يبتعد…
– تشبثوا بثقافتكم الملوثة، أحذروا لعنات عوالمنا.
رفضته بشدة فودعني بتحية خاصة ألمتني وانطبعتْ في نخاع العظم، ثم رحل، كان طيفاً لا يتراءى إلا تحت ضوء الشموع الخافت، اختفى، أبتلعه ضوء النهار الفاجر.

مقالات ذات علاقة

طماطم حكيّة وقطن وفراغ

آمال العيادي

تصميم الحصان أفضل من رسمه

شكري الميدي أجي

طفولة وطن

عبدالسلام سنان

اترك تعليق