القصة المشارك بها في مرايا (المجموعة القصصية التي شاركت فيها 77 كاتبة من مختلف دول الوطن العربي، وتم توقيعها في الأردن
يا أمي أخاف من الظلام – بدت ممسكة تلابيب رداء أمها المتشح باللون الرمادي، ظهرت عليه آثار مختلطة زادت من متاهة الألوان المتداخلة، دفعتها بدون أن تجيبها، بينما انشغلت الأم بتعبئة قوارير ضخمة الحجم من سلسل يسترسل ضعيفا عند أقصى نقطة من خلف ملجأ بني من الأوراق السميكة، والنايلون أحاطته الأعشاب، كأنه قلفة حجر انفلق بين اثنين في قاع بحر تحوطه الأعشاب البحرية وتلتف به، كلما نمت ازداد حجم الالتفاف. أما الأطفال الآخرون، فكانوا قبل أن يعلنَ الرجل الذي تكفّل بمسائل الصلاة وعقد القران أذان المغرب، يملأون الأزقة المتقابلة المتكدسة فيها البيوت المصنوعة من النايلون والبلاستيك، بالضجيج وبإعلان حرب تشبه حروب الكبار، فكلهم يشكلون فرقَا صغيرة يسمونها ميلشيات آخذين ألقابا مميزة كان آباؤهم يتداولونها في أحاديثهم، كلما انتهــــت نشرات الأخبار، وحكايات ألف ليلة وليلة للسادة والمسؤولين كلهم يعِدون ووعودهم دهانات مسكنة لحرقة قلب انهار واهترأ، ينتظر الصباح علّ الصباح قريبٌ لكن ذلك الصباح امتد واستطال وصار مساء بقناع الصباح القريب.
قال الرجل يخاطب الشيخ الذي بيده مسبحة متلألئة: تعبنا وأدركنا الموت ولم نحقق شيئا، ضاعت آمالُنا في عرض البحر هذه القوارب تنزف بأجسادنا، والحيتان تقيم وليمة شهية في قاعها. تُرى منذ متى لم تتذوق الحيتان لحوم البشر؟ ما كان على الشيخ إلا أن يزيده دفقةُ من علوم البلوغ ومسْلك الواصلين، الذين صبروا وامتدوا على جمر الحياة واهترأ لحمهم وهزل بنيانهم وشحبت الحياة على وجوههم.. ثم ماتوا وهم يضحكون. ينصرف الشيخ مستغفرا.. ويظل الرجل مفكرا في كلماته… يعود لبيته.. تستقبله أم العيال بتقرير يستنزف قواه، يضع يديه على رأسه صارخا: أخْ آهْ ..أه.. يا امرأة توبي توبي لماذا لا تصبرين ألا تريدين أن تموتي بهدوء، كفِّي عن الولولة والصراخ. كانت رؤوسُ الأطفالِ الخمسة تُطِلُّ من خلف الستارة يشاكسونهما، ويدخلون متوزعين في قلب الخيمة البلاستيكية ضاحكين بصوت عال.. يلعنهم منزلا غيظَه ووعيدَه على اللحظة التي استنزلهم فيها من ظهره، يتفُّ على نواحي المكان يركل وسادة كانت مركونة بالقرب منه ترتبك المرأة تهرع نحو الستارة، تُنْزِلُ جامَ غضبِها على أقربِهم مودة تضربه بلا رحمة تبكي وتبكي، يهرب من بين يديها يستلقي عند شاطئ البحر، سمع حكايات كثيرة عن القوارب والمسافرين والمدينة الفاضلة، مدينة بلا حرب – تمتلئ بعرائس الظل وأوانس بيضاوات وحلوى غزل تملأ الشوارع.. تذكر ابنة الجيران الجميلة، لقد سافرت مع أهلها لكنها لم تركب البحر، بل ضربت في الجو شراعا طارت بها الطائرة الورقية.
تذكر ابنة الجيران الجميلة، لقد سافرت مع أهلها لكنها لم تركب البحر، بل ضربت في الجو شراعا طارت بها الطائرة الورقية.
هكذا أخبرته أمه قبل الخروج من بيتهم، كانت تظن أنهم سيستقرون وستستمر حياتهم لكن القنابل لم تدع مجالا للحب.. استلقى على شاطئها يسترضع الأحلام نام ويداه مفتوحتان للغد. قلبته الأمواج تدحرج على الحصى، سمع ضجيجا وأناسا يركلون بعضهم يتزاحمون على عوّامة كبيرة، مسح وجهه، شعره الأشقر الملبد برمال الشاطئ ظل ينغزُه، تذكر رفيقه لاعبَ الكرةِ المتمكن أين يجده يا ترى؟ هو أيضا لم يذق طعما للنوم، رغم الغربة وتوحد المشاعر في البيوت البلاستيكية، إلا أن زوجة أبيه كانت تذيقه صنوفا من العذاب.. الطائرات من جهة وأرملة أبيه تمنُّ عليه بعلب الحليب التي كانت تسرقها من بيوت الدعم، تأتي لتحرق أصابعه ثم تسقيه حليبا مشوبا بالماء الملوث. لمحه من بعيد كادوا أن يدوسوه، صرخ: معاذ.. معاذ.. هرع إليه، لم ينتبه أحدٌ كانوا يملأون القوارب، حتى الإطارات الملتفة التي كانت متعة الحياة في البحر، صارت نعوشا تنقلهم حيث لا جهة.
اضطر لأن يصرخ، فصديقه معاذ تحت كتل اللحم والعرق وشعور الرجال الملبدة. يا لَهذه الليلة السوداء! دار حول المكان، لم يشعر بشيءٍ سوى بيدٍ تبدو غير حانيةٍ التهمته بشراسة، ألقت به في قاربٍ امتلأ بالنساء، تفاجأ بأمه وأبيه وصاحبته وأخيه كلهم – أبتعين- شعر بقلبه ينقبض، لا يريدهم معه: الغربة لا تحتمل العائلات، ولا تحتمل كلماتِنا لا نحتملُها! سحبتني أمي ضمتني بقوة، صفعتني أين كنت طيلة الليل؟ لم أستطع إجابتها. كان القارب يرقص والنساء تصرخ والأطفال يتهاوون في البحر، أما الرجال فقد التزموا بالصمت. رأيتهم يسحبون الآيادي بهدوء، عرقهم وعرق البحر قاتل قامع لكل الشهوات، لا نطمع بأكل أو شرب، فقد سُدت طرق اللذائذ الموجة: صرخ شاب في مقتبل العمر- ثم سرعان ما تهاوى في البحر، قلت لأمي التي تحضنني بقوة، أخرجوا الرجل من البحر، سمعتهم يقولون: من يقع لا يعود – هنيئا له بالموت – تحدثوا عن الموت كثيرا (الموجة الموجة)! لم يكن من أحد، كنت أنا والقارب وشاطئ البحر. أحسستُ بأقدامٍ تمشي من حولي يرتدون ثيابا ملونة على وجوههم كمامات يغطون رؤوسهم بالخوف، تحرك أصبعي الصغير تنهدتُ قليلا. كنت أحتضنُ شاطئ الحياة بقوتي شعرت بصدر أمي وريحتها وعنفوانها، لم تبرحني صورة أبي وهو يركل الوسادة لمحت الدموع تسّاقط من عينيه يمنعها من الانهمار، ورأيت عينيه جيدا وهو معنا، ملتزما الصمت. دمعه كحبة الحلوى أردت أن ألعقَها – أردتُ أن أقول له: لا تلعن ظهرك يا أبي، الحياة ليست فقط في الدنيا، سنلتقي هناك ونضحك كثيرا كثيرا! سنكمل باقي أحاديثنا ونحن نتوسد صدور أمهاتنا، سمعتهم يقولون: لقد مات الطفل، لقد مات الطفل! رأيتهم يرسمونني على حيطانهم، وصفحاتهم، رأيت دموعهم التي لا تشبه دموع أبي … رأيتهم للمرة الأولى.