بعد أن روى المؤرخ وعالم الآثار إريك كلين في مؤلَّفين سابقين قصة معركتيْ “مجدو” و”هرمجدون”، الوارد ذكرهما في الأسفار التوراتية المقدسة، يسلّط الضوء في المؤلَّف الحالي “القدس تحت الحصار” على مختلف أنواع الصراعات التي تعرضت لها المدينة. وإن تكن مجدو مدينة ميتة منذ قرون، ولا تزيد في الوقت الحالي عن كونها حقلا أثريا، فإنّ القدس رغم قدمها الضارب في أعماق التاريخ لا تزال مدينة نابضة حياة وحقَّ أن يُطلَق عليها المدينة الخالدة. في الكتاب الذي نعرضه للقارئ يروي إريك كلين تاريخ المدينة من خلال أحداث مضطربة ووقائع عنيفة، وهو مدخل مفيد وضروري للإحاطة بقضايا الراهن.
نشير إلى صدور جملة من الأعمال في إيطاليا في السنوات الأخيرة، بعضها مترجَم والآخر مؤلَّف، تناولت المدينة من زوايا عدّة. فقد توقّف إسرائيل فينكلشتاين ونايل آشر سيلبرمان عند مصداقية الرواية التوراتية بشأن المدينة في كتاب بعنوان “آثار موسى” (كاروتشي، 2002)؛ وفي ما يخص علاقة الأديان التوحيدية الثلاثة بالمدينة، تناول الموضوع كلّ من كارن أرمسترونغ في كتاب “تاريخ مدينة القدس” (موندادوري، 1999) وفرانكو كارديني في كتاب “تاريخ بيت المقدس” (إيلمولينو، 2012)؛ وراجع جوفاني بريزي مختلف وقائع الصدامات الرومانية اليهودية في كتاب بعنوان “غزو بيت المقدس” (لاتيرسا، 2015). أما كتاب “القدس تحت الحصار” الذي نعرضه فهو مصنّف تاريخي أثري، هدف مؤلِّفه إريك كلين إلى عرض السياقات التاريخية لمختلف الصراعات والحروب والغزوات والثورات والفتن التي ألمّت بالقدس، فضلا عن حالات التدمير والتهجير والنهب والحصار التي تعرّضت لها المدينة أو كانت مسرحا لها، على مدى أربعة آلاف عام، أي منذ الألف الثاني قبل الميلاد وإلى غاية التاريخ الحالي تقريبا، في وقت يصرّ فيه المؤمنون من أتباع الأديان التوحيدية الثلاثة على نعت القدس بمدينة السلام. وكتاب على هذا النحو –كما يورد المؤلّف- يسهم في الإحاطة بما للأحداث السالفة من دور في إذكاء الصراع المتفجر اليوم، على مستوى سياسي وديني في فلسطين وما جاورها.
فقد كانت المدينة، على مدى الأربعة آلاف سنة الأخيرة، عرضةً إلى 118 شكلا من أشكال الصراع الشامل والمصيري، وهي صراعات تمتد من الصدامات المحلية إلى الحملات العسكرية القادمة من خارج، بمختلف أشكالها وأنواعها. حيث جرى تدمير المدينة كلّيا وتهجير ما تبقى من أهلها أو استعبادهم مرتين على الأقل، وضُرب حولها الحصار ثلاث وعشرين مرة، وهوجمت اثنتين وخمسين هجمة، واجتيحت في أربع وأربعين مناسبة. كما كانت مسرحا لعشرين ثورة ولعدد وافر من الانتفاضات والنزاعات. فقط في القرن الفائت شهدت المدينة خمس حالات متميزة من الثورات والانتفاضات العنيفة.
أملت كثرة الأحداث وتنوعها على المؤلف جمع كل سلسلة من الوقائع المتلاحقة تاريخيا، أو المترابطة سياسيا، تحت عنوان جامع بلغت أعدادها عشر معنونات في فهرس الكتاب. غطت تقريبا كافة الوقائع التاريخية الكبرى التي هزّت المنطقة على مدى ألفيْ سنة قبل الميلاد وألفيْ سنة بعد الميلاد. في مستهلّ الكتاب يتساءل المؤلف إريك كلين لماذا هيمن الصراع على ذلك النحو المتكرر والمتفجر في المنطقة؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء شنّ عشرات الحشود والجيوش أكانت مشكَّلة من قبائل صغرى أو تابعة إلى دول كبرى حروبا لأجل السيطرة على القدس؟ رغم أن المكان على ما يبدو ظاهريا لا ينعم بثراء طبيعي مميز أو مغرٍ، فهو بعيد عن الموانئ البحرية والطرق التجارية الهامة، فالمدينة تقع على أطراف صحراء قاحلة لا تناسب إنشاء مركز تبادل تجاري مؤثر أو قاعدة عسكرية استراتيجية.
صحيح أن القدس القديمة (أورسالم) لا تتجاوز خمسة هكتارات، وهي القدس المعروفة بـ”مدينة داود” في التقليد العبراني، لم تشهد تمددا سوى لاحقا، أي بعد قرون من عصر النبيين داود وسليمان (عليهما السلام)؛ ولكن القدس، كما خلصت كارن أرمسترونغ في كتابها “تاريخ مدينة القدس“، تقع جغرافياً في حيز تعوزه الثروات الطبيعية، ويبعد عن الطرق التجارية القادمة من مصر والمتجهة صوب الأناضول (جنوبا) وأرض الرافدين (شمالا وشرقا)، بل تبقى المدينة نائية أيضا عن الموانئ البحرية التي تقع على ضفاف المتوسط. ولعلّ وجود نبع جيحون، المسمى في الوقت الحالي “نبع أم الدرج”، وما يوفره من ماء للري والشرب على مدار السنة، وكذلك الحماية الطبيعية التي يضمنها حلق الوادي المحاذي، كانا من بين الأسباب التي دفعت الكنعانيين للإقامة في تلك البقاع، منذ الألف الثالث قبل الميلاد. فقد كتب الجغرافي الإغريقي سترابون: “تقع القدس في موضع لا تحسد عليه” لذلك “لم يخض فيها أحد حربا جادة”. وإن كانت الحروب قد تعددت فيها بتراكم رصيدها الرمزي الديني مع الأديان التوحيدية، بعد أن ساد الاعتقاد أن الصخرة الكبرى على جبل الهيكل هي الصخرة التي تلّ فيها إبراهيم ابنه للجبين (إسماعيل/إسحاق)، بحسب الروايتين الإسلامية واليهودية، ومقْدم عديد الأنبياء والمرسلين إلى المدينة أو إقامتهم فيها، وترسّخ أنها تضمّ موضع معراج النبي الأكرم إلى السماوات العلى. ناهيك عن كون مدينة القدس قبلة ومحجا للأديان الثلاثة بأشكال متباينة.
وقبل ميئات السنين من دخول النبي داود (ع) القدس، كانت المدينة مسرحا لنزاعات بقصد السيطرة عليها والتحكم بمقدراتها. جرى في أواخر القرن التاسع عشر اكتشاف ما يُعرف برسائل تلّ العمارنة، التي تعود إلى حقبة الفرعون أمنحتب الثالث وابنه أخناتون. ومن بين تلك الرسائل ما تبين أنها مرسَلة حوالي العام 1350 قبل الميلاد من قِبل والي أورسالم الكنعاني عبدي خيبا إلى فرعون مصر، يلتمس فيها العون: “لقد هاجموني من كل حدب وصوب، أجد نفسي مثل سفينة في عرض البحر”. وبحسب فحوى تلك الرسائل يُرجَّح أن المنطقة الواقعة على التلال خلف الصحراء، أي وراء البحر الأحمر، التي أطلق عليها المصريون أورسالم، قد تعرّضت إلى حصار من قِبل كنعانيين أيضا غير موالين لفرعون مصر، وهي المرة الأولى التي يرِد فيها نصٌّ مدوّن بشأن الصراع على المدينة.
بعد تلك الواقعة الموثقة سوف تتوالى محاولات غزو المدينة من قِبل الآرامي هزائيل، والآشوري سنحريب، والبابلي نبوخذ نصر (ثلاث مرات مع تدمير للهيكل سنة 585 ق.م)، والفرعون شيشنق، وكذلك من قِبل الفرس في عهد كورش الذي سيَصدُر في عهده “وعد كورش” (538 ق.م)، بما سيسمح لليهود بدخول المدينة بعد النفي البابلي وإقامة الهيكل مجددا. ومن بين القادة في التاريخ الذين لم تستهوهم المدينة الإسكندر الأكبر –جنب نابوليون طبعا-، لم يول كلاهما المدينة اعتبارا. في حين أغوت كثيرين من قبل ومن بعد، مثل أباطرة الرومان بومبيوس وتيتوس وهادريان، وقد تخلل تلك الفترة اضطهاد اليهود (عام 66 م) وتدمير الهيكل (70 م)، ليلي ذلك إخماد ثورة بار كوخبا (135 م). ومنذ ذلك العهد تشتّت اليهود ولم يبق منهم سوى عدد ضئيل في فلسطين إلى غاية العام 1948، تاريخ إنشاء دولة إسرائيل. هذا وقد خضعت المدينة إلى حكم المسلمين من العام 638 م -ست سنوات بعد وفاة النبي محمد (ص)- إلى الحادي عشر من سبتمبر 1917، تاريخ اجتياح وحدات الجنرال إدموند هنري هاينمان المعروف باللنبي القدس. والملاحظ في هذا المسار المتقلب لتاريخ القدس أن نصارى الفرنجة قد حكموا المدينة 88 سنة فقط حين غزاها الصليبيون، أي من العام 1099 وإلى غاية العام 1187 م، تاريخ تحريرها من قِبل القائد صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين.
منذ الحصار الموثق الذي تعرضت له أورسالم في عهد عبدي خيبا لم ينقضِ قرن، وأحيانا بضع سنين، لم تشهد فيها المدينة صراعا على أسوارها أو داخل أحيائها. سيأتي إليها الآراميون والآشورييون والبابليون والرومان والبيزنطيون والمكابيون، كما سيأتي إليها السلاجقة والصليبيون والمغول والمماليك، وسيأتي إليها العثمانيون والإنجليز الذين سيسلمونها للإسرائيليين. يقول المؤلف، لعل الجواب عن ذلك الانجذاب للقدس يقتضي البحث عنه على مرتفع يسمى جبل الهيكل في التصور اليهودي، أو ما يعرف بالحرم الشريف لدى المسلمين، الموضع الواقع في قلب المنطقة السكنية والذي يطلق عليه جرشوم غورينبيرغ في مؤلف “نهاية الأيام” (2000) “الملكية العقارية الأكثر تنازعا عليها فوق سطح الأرض”. في الواقع، في ظل استعادة كرونولوجيا الصراع على النحو الذي ارتآه المؤرخ إريك كلين، ينبغي ألاّ نحوّل القدس إلى بؤرة أبدية للصراع أو إلى عود أبدي للفتن، ونغفل عن كونها موضع قدسية عالية كما يعرب اسمها العربي وقبلة مناجاة للواحد الأحد، لها فرادة على البسيطة. كما لا نقدّر أن المؤلف إريك كلين قد أصاب حين أورد “إن نعت ‘مدينة السلام’ الذي أضفي على القدس هو باحتمال كبير خطأ في الترجمة وبدون شك هو نعت غير لائق لها” أو “ليس هناك مدينة تضاهي القدس من حيث كثافة الصراع وتواتره عبر التاريخ”، لأن من يريد سلاما للقدس ينبغي ألاّ يستثمر في الصراع حتى لا ننجرف إلى رؤية عبثية للتاريخ على غرار الصورة التي رسمها الأثري الإسرائيلي مائير بن دوف عن تواتر الصراع وتناسل بعضه من بعض حول المدينة: استخدم الإمبراطور البيزنطي (جوستينيان) بقايا جبل الهيكل لبناء كنيسة عظيمة واجتهد في إخفاء تلك البقايا، لكن اليهود هدموا الكنيسة في أول فرصة. وبنى المسلمون فضاء جبل الهيكل مستعملين بقايا الكنيسة ذاتها. وبعد ميئات السنين من الصمت، استعاد الدارسون الإسرائيليون هذه القصة المعقدة من عمق النسيان: هذا هو معنى الآثار في أورشليم.
على العموم، يخلص الكتاب إلى فكرة جوهرية مفادها أن معظم المعارك التي شُنَّت على مدى أربعة آلاف سنة أججتها رغبة جامحة لدى الأطراف المتنازعة، لتأكيد هيمنتها الثقافية والدينية على الأرض. لذلك تعود معظم المعارك على المدينة إلى تقدير أهميتها السياسية والدينية وليس إلى أهميتها العسكرية أو التجارية. إذ يبدو توظيف الرأسمال الرمزي فاعلا في تأجيج الصراع حول القدس. لم يتوان القادة الصهاينة، تيودور هرتزل وماكس نورداو وفلاديمير جابوتنسكي، في إثارة المخيال الإسرائيلي بتوظيف الأحداث البطولية للثوار المكابيين (167 ق.م)، واستحضار وقائع ثورة بار كوخبا ضد الرومان (135 ق.م)، واسترجاع تداعيات المنفى البابلي ليغدو المزمور (137: 1-6) بمثابة النشيد الملحمي للصهيونية “على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا عندما تذكّرنا صهيون، على الصّفصاف في وسطها علّقنا أعوادنا، لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذّبونا سألونا فرحا قائلين رنمّوا لنا من ترنيمات صهيون، كيف نرنّم ترنيمة الربّ في أرض غريبة. إن نسيتك يا أورشليم تنسني يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك إن لم أفضّل أورشليم على أعظم فرحي”. ودائما ضمن ما يخلص إليه المؤلف: عادة ما تغدو صراعات الماضي سندا للدعاية السياسية في الراهن، وهكذا تُستحضر أحداث تعود إلى أحقاب بعيدة. فعلى سبيل المثال يحتفل الموظفون الإسرائيليون سنويا بانتزاع النبي داود (ع) القدس من قبضة اليبوسيين حوالي العام ألف ق.م كمطلع للسيطرة اليهودية على المدينة ضمن عملية إنعاش بائسة للذاكرة، في وقت يفخر فيه الفلسطينيون بتحدرهم من تلك الجماعة.
صحيح وفّق المؤلف في عرض الأحداث التي عايشتها القدس، وراعى في ذلك شروط الكتابة العلمية باعتماد الخرائط والصور وإدراج جملة من الفهارس، توزعت بين فهرس للأعلام وفهرس للأماكن وفهرس للمراجع، مع ذلك لم يفلح في تفسير الأحداث، ولم يجرؤ على تقديم خلاصة لمغتصب القدس الأخير حتى لا يبقى مصنف “القدس تحت الحصار” استعراض وقائع، فالتاريخ ليس مجرد إخبار بل بالأحرى هو نظرٌ وتحقيق.
نبذة عن المؤلف: إريك كلين هو أستاذ في قسم اللغات والحضارات القديمة ومدير معهد الآثار في جامعة جورج تاون. قام بالعديد من الحفريات في فلسطين والأردن ومصر. صدرت له مجموعة من الأعمال التاريخية منها: “مقدمة في علم الآثار التوراتي” (2009)، “سقوط الحضارة” (2014)، “معركة هرمجدون” (2016).
______________________________________
الكتاب: القدس تحت الحصار.. من كنعان القديمة إلى دولة إسرائيل.
تأليف: إريك كلين.
الناشر: منشورات بولاتي بورينغياري (تورينو) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2019.
عدد الصفحات: 421 ص.