ظهر المسيح في منطقة خاضعة للإمبراطورية الرومانية. لذا كانت دعوته سلمية، ولم يسعَ (ولم يكن باستطاعته) إلى إقامة دولة. وبعد اختفائه، تسربت المسيحية إلى الإمبراطورية الرومانية في عقر دارها، وتمكنت، شيئا فشيئا، من التغلغل في ثناياها على مدى ثلاثة قرون، إلى أن اضطر الإمبراطور الروماني قسطنتين الكبير سنة 313 إلى إصدار ما يعرف بـ “مرسوم ميلان” الذي اعترف بالمسيحية كإحدى الديانات القائمة في الإمبراطورية، وفي سنة 380 أعلن الإمبراطور تياؤدوسيوس المسيحية دينا رسميا للدولة، وفق المذهب الأرثوذكسي. هذا يعني أن الظروف لم تكن مواتية للمسيح كي يؤسس دولة.
الأمر مختلف في حالة الإسلام. حيث بدأ محمد دعوته في منطقة لم تكن خاضعة لاحتلال أجنبي، ما يعني أنه لم تكن ثمة سلطة قاهرة تتحكم في مصير المنطقة، وإنما كانت المنطقة خاضعة لتفاعل قواها الداخلية، فكان متاحا له بث دعوته في إطار هذه التفاعلات، ومكنته الظروف العامة وحنكته وحسن استغلاله للانقسامات والتنافسات القائمة بين مكة ويثرب (المدينة في ما بعد) من تعزيز دعوته وإيجاد قاعدة صلبة له ولها في موطن، هو يثرب، قريب لموطنه الأصلي، مكة.
كان محمد، على خلاف المسيح، صاحب رسالة دينية ورجل سياسة وحرب. كان يبث الدعوة الدينية الجديدة ويبني الجيوش ويقودها، ويخوض المعارك، ويدخل في تحالفات ومفاوضات. ومقارنة بالمسيحية، أنشأت المسيحية بنية هرمية تمثلت، بعد انتصارها، في الكنيسة، لأنها اضطرت في البداية إلى العمل السري المنظم الذي يتطلب انضباطية وهرمية وخضوع القواعد السفلى للمؤسسات والمراتب العليا. لكن الإسلام لم يكن بحاجة إلى العمل السري، لأن سبيل العمل العلني كان سالكا أمامه، وبالتالي لم يكن محتاجا إلى بناء هرمي تنبثق عنه مؤسسة تماثل الكنيسة المسيحية.
هذه الظروف هي التي مكنت الرسول، إضافة إلى حسه العملي وحنكته السياسية العفوية، من تأسيس الدولة الإسلامية. وكان خلفاؤه الأوائل واعين بذلك. فقد خاض الخليفة الأول، أبو بكر الصديق، حرب الردة ضد المرتدين ليس لأسباب دينية (إذ كان عمر ابن الخطاب يعارضها) ولكن لأسباب سياسية واقتصادية. تتعلق الأسباب السياسية بهيبة الدولة الناشئة، إذ إن أي تهاون إزاء ذلك سيشجع قبائل أخرى على التخلص من سيطرة هذه الدولة الوليدة، كما إن عدم دفع الزكاة يقضي على مصدر تمويل أساسي لموارد هذه الدولة.
وإذن، فقد ساعدت الظروف العامة الإسلام في إقامة دولة منذ منشئه، في حين أتاحت الظروف للمسيحية إقامة دولتها على أرض أخرى وبلغات أخرى، إذ من المعروف أن لغة المسيح كانت الأرامية، وأن أقواله ترجمت إلى اليونانية ثم اللاتينية.
خلاصة القول، أنه ينبغي دراسة الظروف الموضوعية التي تكتنف نجاح، وفشل، الدعوات الثورية التي تستهدف تغيير بنية المجتمعات التي تظهر فيها.
____________________