بعد انتصار الليبين في القرضابية تم تحرير بني وليد من الطليان والقضاء على الحامية الإيطالية التي كانت تتمركز هناك، وتم أسر بعض الجنود والضباط العاملين بتلك الحامية، لم يتم اعتقالهم وإبقاؤهم في السجن لفترة طويلة بل سمح لهم بالتجول والعمل داخل حدود بني وليد، من بين أولئك الأسرى كان بعض البنائين، كان أولئك الأسرى يبنون البيوت مقابل الأكل والأمان.
جدي الذي كان شيخا جاوز السبعين وأمضى بسجون الترك في السرايا الحمراء واسطنبول خمس عشرة سنة كاملة قبل أن يطلق سراحه ويعود إلى ليبيا وبني وليد، بنى له أولئك الأسرى بيتا ممتازا وتركوا له شهادة مكتوبة بحسن معاملته لهم.
بيت جدي الذي امتزج فيه المعمار الليبي بالإيطالي وبلغ المائة عاما سنة 2016، مثل وغيره بيوت كثيرة في بني وليد بناها أولئك الأسرى نقلة متميزة في عمران بني وليد، فكان طرازا مختلفا دون أن يكون غريبا بين أنماط المعمار الليبية السابقة له، والتي تعتبر بني وليد متحفا هاما لها “غالبها بكل أسف دمر واختفى الآن”، كانت خريطة البناء ليبية تماما راعت كل ظروف وتقاليد الأسر الليبية، وكذا كانت مواد البناء، الطليان أضافوا لذلك البناء تفاصيل هامة دون أن يظهر أي نشاز ولاتناقض مع الخريطة الليبية للبيت، وأهم تلك الإضافات كان علو سقف البيت واقتراب الغرف من شكل المربع بدل المستطيل الضيق الذي كان يسود المعمار الليبي والذي كان يفرضه قصر جذوع النخل المستخدمة كقناطر للسقف، كان التناغم بين حضارتين يبدو جليا في بيت جدي والبيوت الأخرى التي بناها الطليان الأسرى.
بني وليد عرفت ذلك التناغم بين روما وبني وليد منذ القرن الثاني وحتى القرن الرابع للميلاد، حيث بنت فرقة أوغسطا الثالثة مستوطنات وقصورا ونقاط حراسة وحفرت آبارا “لازال بعضها يعمل إلى الآن” وفي تلك المباني لازال يظهر جليا ذلك التناغم بين المعمار الليبي المحلي والروماني، الفرق الوحيد بين ذلك المعمار وبيت وجدي أن مباني فرقة أوغسطا خططها خبراء رومان وبناها بناؤن ليبيون، عكس بيت جدي وغيره من البيوت خططه ليبيون ونفذه بناة طليان.
تجربة بيت جدي وعشرات البيوت الأخرى التي بناها أولئك الأسرى الطليان مثلت هذا التفاعل الحضاري بكل سلبياته وإيجابياته بيننا وبين أوروبا عبر تاريخ طويل من التكامل والتفاعل والصراع، فنحن وأوروبا ورغم كل آثار الصراعات والحروب لسنا إلا شعوب بحر متوسط، ظلت تتفاعل فيما بينها وظلت نتائج هذا التفاعل إيجابية في غالبها، فرغم جرائم الغزو الإيطالي بقيت القرى والمدن والمزارع التي أنشأها الطليان ورغم فظائع الرومان بقيت لبدة وصبراته ومستوطنات قرزة ونظم رييها وآبارها.
في الجبل الأخضر زرت قرية أسماها الليبيون “عمر المختار” تخليدا لشيخ الشهداء الذي قاوم الطليان حتى الشهادة، في تلك القرية لم يكن ثمة مبنى ليبي واحد، كان بها فقط مركز بوليس ومستوصف وبعض المحلات، وكلها كانت مباني أنجزها الطليان، بكل أسف لم يشيد فيها لا إدريس ولا القذافي شيئا ذا بال وظلت منجزا إيطاليا يخلد “عمر المختار” وهو الإضافة الليبية الوحيدة لتلك القرية.
التفاعل الليبي الإيطالي كان ورغم الآلام التي عناها الليبيون أثره، حمل الكثير من الجوانب الإيجابية التي كان بإمكاننا أن نجعل منها قاعدة لبناء علاقات مثمرة ومفيدة لنا لإنجاز التحديث في بلادنا الذي ظل يراوح، بل ويتراجع كل مرة منذ منتصف القرن الماضي وحتى الآن.
كان الإيطاليون قد أسسوا للزراعة الحديثة في ليبيا مستلهمين تجربة أجدادهم الرومان الناجحة والتي جعلت من قرزة ووديان بني وليد أهراءات قمح روما ومن ترهونة ومسلاتة ولبدة خزان زيت الزيتون لروما، وورثنا منهم كل تلك المزارع المنتجة والحديثة ولم نستطع تطويرها ولا حتى الحفاظ عليها، بل فعلنا بها مافعلنا بقصور المزارع المحصنة الرومانية ونقاط حراستها التي قلبنا سافيها على ما فيها بحثا عن كنوز مخبأة، دون أن ندرك أنها هي الكنز الهام.
الطليان أسسوا أيضا للكثير من الصناعات الحديثة في ليبيا والتي دمرناها بكل أسف وفي أحسن الأحوال تركناها تنهار، كما ينهار بيت جدي وغيره العشرات من البيوت التي بناها أولئك الأسرى الطليان في بني وليد وغيرها.
______________
نشر بموقع بوابة الوسط