أحلام محمد الكميشي
الثلاثاء 18 شعبان الموافق 2011.07.19م.. أي منذ ثلاث سنوات غادرنا الكاتب الصحفي والناشط الحقوقي والسياسي (محمد رجب طرنيش) عن عمر 59 سنة وشهرين تقريباً.. ترجل الفارس عن جواده والتحف بكفنه واحتضنت تربة مقبرة (الشويرف) بسوق الجمعة جسده فيما حلقت الروح نحو بارئها هادئة مطمئنة هدوء ابتسامته الكبيرة التى ارتسمت على محياه وهو يغمض عينيه مودعاً للمرة الأخيرة.. وظلت تلك الإبتسامة العميقة مرسومة كي يراها كل من حضر لحظة الكشف عن وجهه رحمه الله سواءً في ثلاجة حفظ الموتى بعيادة (سانت أوقستان) بتونس العاصمة أو بمنزل العائلة بسوق الجمعة قبيل الجنازة.
وأتساءل هنا ما الذي رسم تلك الإبتسامة؟! وما سرها؟! فالرجل كان يصارع الموت لأيام ثقيلة وصعبة وكان في غيبوبة والألم المبرح جراء عدة جراحات أجريت له وسارعت في قطع تذكرة اللاعودة مازالت أشرطتها اللاصقة متشبثة بجسده الذي يغلي من ارتفاع الحرارة، لا مجال لأن تكون تلك الإبتسامة بسبب الراحة أو موفور الصحة أو سماع نكتة أو طرفة أو تعليق.. ابتسامة ترتسم على الوجه المتعب في عز معركة الإحتضار ويستمر إشراقها لما بعد الوفاة بأيام فمحمد غادر مساء الثلاثاء ووصل طرابلس فجر الخميس وهو يوم الجنازة ليشرق عليه فجر الجمعة كأول فجر لاتراه شمسه فوق الأرض.
(محمد طرنيش) رجل بحجم الرجولة وعبق أولاد الأصول والبيتية وهموم الإسلام والإيمان والوطنية.. له في كل قلب مكانة وفي كل ركن من الوطن معزة.. عاش يهب لحظات عمره القصير لكل من يحتاج تلك اللحظات ولايبخل بالروح والجهد والمال والوقت حتى على من لايستحق ذلك، فكيف بمن يستحق ؟ قاد معركته لأجل ليبيا بكل شبر وروح فيها من كل موقع كان فيه دون انتظار دعوة من أحد أو ثورة يلتحق بها أو مرتب أو مكافأة أو منحة، ولم يتحجج بقلة الإمكانيات أو انعدام الصلاحيات أو كثرة المسئوليات أو تعداد من يمتهن النباح فيما قافلته تسير في هدوء ودون ضجيج.
لم يقتنع بأن ينوب عنه أحد خلال أي صدام تحتاجه معركة الوطن وفي أي مكان بل ناب بنفسه عن كثيرين كلما لزم الأمر.. لم يختبئ وراء دعوة للعصيان كي يبرر الأخذ من جراب الوطن دون حسيب أو رقيب، ولم يتغيب عن العمل والعطاء الوظيفي أو الخيري متدثراً بتقرير طبي أو تستر أو محسوبية وكان دائماً جاهزاً لتحمل مسئولية ما يخطه قلمه أو تنطق به شفتاه دون مزايدة أو ادعاء للبطولة والفروسية.
اليوم وأنا أرى الوطن غير ما كنت ألمحه يلمع في عينيه أو يرن في نبرات صوته .. وطن يغتسل بأنهار من الدماء كل دقيقة في كل مكان وعلى كل قارعة طريق أو مفترق طرقات.. وطن يتصارع باسمه كل حلفاء الأمس وفرقاء اليوم دون حياء من دماء الشهداء أو وجل من دموع اليتامى والثكالى والأرامل أو خوف من دعوة مظلوم أو صائم أو خشية من الله.. وطن ينحدر نحو الهاوية أو ندفعه نحن نحو ذلك بالمشاركة طوراً وبالسلبية أطواراً.
اليوم وأنا أرى كل ذلك وغيره أخجل من مخاطبة روحه لأني كما كثيرون أحسبه عند الله من الشهداء وفي مصافهم ومرتبتهم وأعتقد بأنه لو كان كذلك فلابد من أنه حي يرزق وبالتالي ماذا أقول له لو قدر لي أن أخاطبه.
تجف الكلمات في الحلق ويعجز القلم عن السير فوق السطور ولايسعني إلا أن أقول رحمك الله يا محمد يا أبا هشام ومصعب وجهاد.. كنت مدرسة للنضال.. للكفاح.. للوطنية.. ما أحوجنا اليوم أن نتتلمذ على مقاعدها علنا نعي حجم الكارثة وننقذ ما يمكن إنقاذه كي نستطيع في ذكراك الرابعة بعون الله إن كان في أعمارنا بقية أن نحدثك بفخر عن شكل الوطن الذي صار كما كنت تريد له أن يصير.
طرابلس 2014.07.19م