المقالة

أكروبات الشعر ونثر الكهول

من أعمال التشكيلي الليبي محمد الخروبي
من أعمال التشكيلي الليبي محمد الخروبي

في الدورة الثالثة من مهرجان الأسطى للفكر والفنون الذي تقيمه جمعية بيت درنة الثقافي، وبعد توقف عن دورات هذا المهرجان الذي بدأ العام 2009 ـ لمدة 13 سنة، كانت مشاركتي في محور التجارب تحت عنوان تجربتي الشعرية، ووقفتُ حائراً أمام هذا العنوان المربك الذي كان وراء كتابة بعض السِّيَر الإبداعية أو موضوع حوارات أدبية مع المؤلفين في أجناس شتى. وطرحتُ السؤال النكدي: ماذا تعني التجربة؟ وما إذا كان الحديث عن وزن الحصيلة في النهاية أكثر أهمية من الحديث عن طول التجربة. وانطلاقاً من غموض السؤال الأول، ومن إحراج السؤال الثاني، ولأن الحصيلة متواضعة قياساً بمدى ــ ما يُسمى التجربة ــ الزمني، رأيت أن أقدم ورقة سبق أن نُشِرتْ في موقع «كيكا» الأدبي منذ سنوات، كانت نتاج دعوتي للمشاركة في أمسية شعرية أقامتها جمعية أصدقاء اللغة العربية يوم 22 مارس 2014، ولأن مزاجي في تلك الفترة كان ضد الصُّداح بشعر قيد المساءلة، ولأني كنت بصدد مراجعة تجربتي الشعرية وما تسرّب لخاطري من بوادر ازدراء لها، قررتُ احتراماً لصديق جميل دعاني (الفنان علي أحمد سالم) أن أحضر وأكتب اعتذاراً مختزلاً عن عدم قدرتي على إلقاء شعر، غير أن هذا الاعتذار لم يتوقف عند صفحة أو اثنتين، وتدفقتْ الشجون كشكوى قروي لا يعرف أين خسر ولا كيف بدّد عمره، واكتشفت أني كتبت ما يشبه بياناً شعرياً طويلاً أُعلِن فيه ضمنياً عن توقفي عن كتابة الشعر لأسباب غبية، وإن لم تخلُ من وجاهة. لكن سؤال الحصيلة كان لُبَّ هذه الورقة وسرَّ قلقها.

وفي مشاركتي في أعمال المهرجان، وقبل قراءة هذه الورقة الخبيثة، أحسستُ أني في حاجة لأن أفكر أمام الحاضرين بصوتٍ عالٍ في مغزى الأسئلة السابق ذكرها:

وبدأتُ بالتورط في محاولة فهم ما تعنيه التجربة، مشيراً إلى أن من يشعر أنه أصبح شاعراً كبيراً (أعني كبيراً في العمر) قد تراوده رغبة للالتفات إلى الخلف وإعادة تدوير الماضي بما يناسب غطرسة الحاضر. يقول الشاعر سعدي يوسف: أنا لست شاعراً كبيراً لأني معرّض في أي وقت لأن أكتب قصيدة رديئة. غير أن الشعراء الذي أصيبوا ــ وهذا من حقهم ــ بوسواس النرجسية (المهضوم) حيناً وثقيل الدم أحياناً، يقررون حين يلتفتون إلى الخلف ويتورطون في الحكي عن طفولتهم وتجربتهم، أن يتكبدوا تأليف بعض المعجزات الصغيرة التي شكّلت ما يعتقدون أنه أسطورتهم الراهنة، وهذا أمر لا يخص الشعراء ولا الفنانين فقط، لكنه ينطبق على كثير من مجالات التباهي الأخرى، بداية من أبطال التاريخ، وصولاً إلى الطغاة الأوائل والمعاصرين الذين ألّفوا من السِّيَر ما يؤكد أنهم منتَخَبون من السماء للقيام بمهامهم المقدسة.

في جو تغلب عليه الفكاهة وظِلٌّ من سخرية تحاول أن تكون خجولة من هذه الأوهام المستساغة، قلت أن ما شد انتباهي في حديث الكثير من الشعراء عن تجاربهم أو طفولاتهم، أنهم يتفقون على ثلاث نقاط رئيسية عن البدايات الواعدة: (1) تَرَكَ لي والدي مكتبةً كبيرة (2) كان مُعلِّم اللغة العربية معجباً بأسلوبي في مادة التعبير (3) بدأت الكتابة في سن العاشرة. طبعاً بالإضافة إلى علامات أخرى تشبه علامات إعداد الأنبياء لا مجال لذكرها، خصوصاً وأن الشعراء مرّروا خرافة أنهم يتلقون الإلهام من مصادر غامضة مثلما يتلقى الأنبياء الوحي، وربما هذا الغرور الشيطاني ما جعل القرآن يأتي بآيات تكيل الهجاء للشعر والشعراء.

في حوار أُجري معي في تلفزيون عربي، وجَّهتْ لي المُحاوِرة السؤال التقليدي عن البدايات، ومثلما يحدث معي الآن ارتبكتُ، ورأيت مَخرَج الطوارئ في أن ألوذ ببعض هذه الوصفة الجاهزة التي قرأتُها في حوارات أخرى أو سِيَر لشعراء أصبحوا كباراً (أعني كباراً في السن)، فأنا في الواقع لم يترك لي أبي مكتبة لأنه كان كادحاً أمياً، ولم يحدث أن لفتُّ انتباه أي معلم للغة العربية في مادة التعبير التي كنت أكرهها، وبالتالي لم أجد أمامي سوى فكرة النبوغ المبكر، باذلاً جهدي لأن أجعل المحاوِرة تأخذ الأمر على محمل الجِّد، وأن تبتسم لهذه المعجزة كما فعَلتْ مع ضيوف سبقوني، فقلت ــ ولا أعرف كيف قلت ـ أني بدأت كتابة الشعر في سن الثالثة عشر، وحققتْ الخرافة مبتغاها من أجل أن يكون الحوار جاداً، ثم اكتشفتُ أني كذبت عليها دون أن أتخلى وقتها عن الابتسامة النابعة من سحر الخرافة، وبالطبع هي صدّقتْ هذه الكذبة لأن ضيوفاً سابقين قالوا لها أنهم بدأوا كتابة الشعر في سن العاشرة أو في الخامسة، واقفين بمسافة معقولة وحذِرة بينهم وبين النبي الذي تكلم في المهد.

وتمهيداً للورقة التي سأقرأها، تحدثتُ، أو خُيِّل لي أني تحدثتُ عن سبب إعلاني اعتزال الشعر، مبرراً ذلك بنقاط بدت لبعض الحاضرين صادمة وللبعض فَكِهة، فاعتبرتُ أن الشعر نشاط شبابي، مثله مثل الجمباز أو رقص الباليه أو ممارسة الحب أو غيرها من الرياضات الخطيرة التي تناسب عمر الشباب، معتبراً أن تلك الغنائية العالية التي تصاحب عمر الشباب الغنائي هي ما تبث في الشعر حرارته ونزقه الضروري، وأن أهم الشعراء في التاريخ قضوا في سن مبكرة تاركين خلفهم هذا العنفوان الشعري الذي لم تلوثه مرحلة ما يسمى النضج، وأنه بتقصِّي تجربة الشعراء الذين استمروا لردح من الزمن سنكتشف في سني نضجهم ما أصاب قصائدهم من وهن وتكلُّسِ مفاصل ناتجَين عن ملوثات مثل الخبرة والحكمة والنضج، وما أقساها من مفردات على الشعر والفنون الغنائية عموماً.

وطبعاً لكل قاعدة استثناء، ولأن من قدمني شاعرٌ استطاع عبر التجدد أن يتجنب هذه المفردات وهذا المصير، كنت سأستثني عاشور الطويبي الجالس بجانبي، وعلي صدقي عبدالقادر الجالس في الجانب الآخر من حياة أخرى، ولكني نسيت أن أخبر الحاضرين بهذا الاستثناء الذي أكتبه الآن، والذي أُرجعه فيما يخص صديقي عاشور الطويبي إلى كونه كائناً شعرياً يبدو كأنه يعيش في ثقب أسود خارج قبضة الزمن، أو حيث يتوقف الزمن كما تخبرنا الفيزياء النظرية. هذا من جانب، ومن جانب آخر كنت أريد أن أقول أن عاشور اختار للشعر رياضةً أخرى رائقة وهي لعبة الجولف التي تجعله يمشي على عشب الشعر وئيداً، يلاحق المجازات ويلقيها برميات متتالية صوب أفق قصي، وهي لعبة يزداد إتقانها كلما تقدم لاعبها في العمر، إضافة إلى الهوس بالترجمة التي تجدد دماءه الشعرية، وتعلّقِه بالشعر الصوفي الذي يعانق المُطلق ويخترق حدود اللغة والزمان والمكان. أما ما يخص الشاعر علي صدقي عبدالقادر فخمنتُ أنه لَعِب لعبة أخرى، وهي عودته القهقرى في الزمن حين أحسّ أنه وصل ذروة المنحنى التي يسمح بها الصعود الشعري، فعاد شاباً ثم مراهقاً، لينهي تجربته طفلاً يلعب بالكلمات والمجازات الغريبة، وفي قصائده الأخيرة كان يكتب خبرته في الحياة بلغة الأطفال وتأتأتهم وغنجهم، بما يشبه تقنية بيكاسو التي وصفها بأنها محاولة لتقليد رسم الأطفال الذي يحتاج الإنسان إلى عمره كله كي يتعلمه. وكل هذا لا ينطبق على من تعاملوا مع الشعر كلعبة طاولة الزهر الكسلانة، ورمي النرد عشوائياً في انتظار الحظ السعيد، وما أكثرهم.

أما بالنسبة لي كعاشق ولاعب سابق لكرة القدم في نادي القرية، فإن رؤيتي الحزينة للعبقري مارادونا وهو يلعب كرة القدم في كهولته بجسد مترهل وكرش منتفخة، يركل الكرة فتذهب في اتجاه غير الذي أراده، جعلني أتوجس من المآل نفسه فيما يخص لعبة الشعر، ففضلاً عن عوزي عبقرية البدايات، أصبحتُ في الفترة الأخيرة أركل القصيدة فتمضي إلى صوب غير الذي صوبتُ صوبه.

ولأن ثمة قصيدة واحدة خانت هذا البيان وجاءت بعد النذر، اعتذرتُ بالنيابة عنها واعتبرتها (قصيدة اعتزال) على غرار مباراة الاعتزال التي يختم بها اللاعب حياته في المستطيلات الخضراء، ولأن هذه القصيدة ما زالت تربكني، أشرتُ إلى أن اللاعب في مباراة اعتزاله قد يكون محظوظاً ويسجل هدفاً أو أكثر، وقد يكون سيء الحظ مثلي فيتسبب في ركلة جزاء على مرماه، أو في هدف عكسي في شباكه، وقرأتها على الحاضرين دون أن أستعيذ من النحس الذي رافق هذه المحاولة.

والآن أبرر تطفلي على الرواية بكونها فناً استرخائياً يناسب الكهول والشيوخ، يتمتع بسعة صدر لاستيعاب كل الهرطقات عن الخبرة والحكمة والنضج، وأن النثر عموماً يشبه رياضة التمشي في الطرق الريفية لرياضي سابق فقد لياقته الشعرية، وأصبح غاية مراده الاحتفاظ بذاكرته واتّقاء مرض تكلس المفاصل.

ملاحظة: نسيت أن أذكر، في سياق حديثي عن سبب الاعتزال، كِذبةً أخرى تجشمتُها أمام الحاضرين، مفادها إتاحة الملعب للشعراء الشبان المنتظرين على الدكة، وكأن الأمر خيارٌ، وكأن الدكة مزدحمة، وكأن ثمة حشوداً من الجماهير تتابع الشعر ستصفق لهذه التضحية البلهاء، أو تَعلَم بها من الأساس.


بوابة الوسط | الثلاثاء 20 يونيو 2023م.

مقالات ذات علاقة

بين دون كيشوت وميكافيللي

المشرف العام

الفاعل “ضمير” غائب

سالم العوكلي

مجتمعات “ما قبل الوطنية”

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق