المقالة

في فلسفة الحزن والإيمان

من أعمال التشكيلية شفاء سالم
من أعمال التشكيلية شفاء سالم

الحزن، الله، الإنسان. ربما هذه هي الرؤوس الثلاثة التي تُشكّل الثالوث الأعظم لأي عمل روائي أو فلسفي جبار ظل محتفظا بأثره الخالد في مسيرة المعرفة الإنسانية..

ويتردد كثيرا أن الحزن سببه المباشر هو عدم الإيمان، وأن التدين والالتزام (المختزل في الأداء الشعائري) والإفراط في ترديد الأدعية والأوراد باللهج باللسان هما ما يقودان حتماً للسعادة والسرور.

لكن هذا النوع من الإيمان هو يقين مزيف في الحقيقة، وسرعان ما يتلاشى ما إن يذهب القرح ويُكشَف السوء.

هذه هي طبيعة الإنسان، لأنه حتى في هذه الحالة، ما إن تمضي أيام حتى يدرك المرء أن الحياةَ ليَصعُبُ تحمُّلها بالنسبة إلى الفرد كما بالنسبة إلى الإنسانية بوجه عام. فما تسمى حضارة التي يشارك فيها تفرِض عليه درجة محددة من الحرمان والخوف وعدم اليقين أيضا، ويسبب له الناس الأخرون مِقدارا آخر من الألم، إما بخرقهم تعاليم هذه الحضارة، وإما بسبب نقصها وعدم كمالها، بالإضافة إلى المصائب الأخرى التي ينزلها به الواقع الجامِح غيرِ المُروّض الذي يطلَق عليها زورا (في مناسبات كثيرة) اسم الأقدار أو المقادير.

ينجم عن ذلك قلق وهمٌّ دائمان وترقب من النَوائب، وتنكمش النفس إلى أدنى حد لها في لحظات صفاء خالصة حين ترى رتبتها وتدرك حقيقة المسافات الهائلة التي تفصلها عن الأمان والحاكمية والديمومة، وهذا في حد ذاته إذلال وتهديد خطير للنرجسية الطبيعية المتواجدة في أصل الجبلة الإنسانية المتمردة بطبعها.

الحقيقة أن الإيمان النابع من الأعماق غير العابئ بالمظاهر التعبدية لا يمكن أن ينفصل عن الحزن، وما هو إلا جرعات خالصة تُستقطر من الروح ذاتها، يعطيها المؤمن لنفسه ليجتاز مصائبه، كبيرها وصغيرها. والحقيقة الأخرى هي أن الحزن والألم هما من أساسيات الحياة، ولا يمكن لأحد احتمالهما دون الإيمان، وهو الوسيلة لمدك بالطاقة اللازمة لتحتمل ما تمر به في حياتك، وإن فقدته، فبم عساك أن تتقوى على حزنك؟

الأديب المفكر الروسي دوستويفسكي، بعد القبض عليه بتهمة معارضته للإمبراطور الروسي وقتها قضى ثمانية أشهر في سجن انفرادي منعزل لم يخاطب فيها بشراً، حتى أن السجانين كانوا ينتعلون أحذية مخملية لا تُحدث وقعاً للخطى في أروقة السجن، لكيلا يشعر أن هناك بشرا سواه في هذا العالم، وكانوا لا يردون عليه صياحه ويحرصون على الاحتجاب عنه حتى لا يراهم حتى عند إعطائه حصته من الطعام..

لقد أسلموه الى نفسه، ليتكفل الحزن والألم به ويقودانه إلى الجنون.. ثم اقتادوه وهو يرفل في السلاسل مرتدياً كفنه، وأمروه أن يحفر قبره بنفسه، ثم وقف على رأس الحفرة، أمام فرقه إطلاق النار، التي أعدت بنادقها وصوبتها إلى مقتل من جسده، بانتظار أمر قائدهم..

لكن تحدث معجزة..

يدخل المشهد جندي مسرع لاهث، معه أمر بالتراجع عن إعدامه، والحقيقة أن دوستيفيسكي لم يعلم حتى مماته ما إذا كان ما حدث هو تمثيلية مرتبة لكسر روحه وتحطيمه من الداخل.

بعد نجاته من ذلك الموت المذل، يُنقل بعدها الى الأشغال الشاقة بسجن جديد في سيبريا لأربعة أعوام، طالته فيها أمراض عديدة.

بعد السجن، كتب دوستويفسكي طوفانا من روايات لم يرٓ أحد مثلها قط قبله، نصوص فريدة وجدت سبيلها للكهوف المظلمة في النفس الإنسانية، وتغير بعدها وجه الأدب العالمي، على الرغم من نظرات الكثيرين التي ما فتئت تقول إن دوستوفيسكي كان سوداويا، وهنا أقول، ربما فات أولئك أنهم لم يدركوا حقيقة الألم وأي طاقة كامنة فيه يمكن أن يسخرها الإنسان إذا أراد تفجيرها.

يقال إن أرسطو طرح في مرحلة مبكرة من تاريخ دراسة السوداوية سؤالا تصعب الإجابة عليه وهو: لماذا كان الكثير ممَن برزوا في ساحات الفلسفة والأدب والفنون والعلوم يتصفون بالسوداوية؟

 وفي الواقع، لقد عاش أفلاطون وسقراط وهرقل وأجاكس وحتى من أتى بعدهم حزانى غرباء، نائين عما يشغل الناس وكأن ثمة باب قد وورب لهم يرون من خلاله ما لا يراه غيرهم مسببا لهم حزنا عظيما.

ولقد كان المبدعون بالفعل هم أكثر الناس حزنا أيضا في مسيرهم الشاق فوق الأرض.

لكن بعيدا عما يتردد في ألسنة الناس، فقد يكون هذا النوع من الحزن مرتبطا ارتباطا عنيفا بالقدرة على الإلهام لتحقيق إنجازات استثنائية بالعقلِ والخيال، وأن وراء المظهر روح متأججة باكتشافات جوهرية مذهلة قد يصعب شرحها والإفضاء بها للآخرين. الأمر الذي يبدو كأنه علامة على قدرة الفرد من هؤلاء على إدراك أمور لا يمكن أن ينالها أولئك الأكثر سعادة ونشاطا وانشغالا بما يلوح في ظاهر صور الحياة ولا يرون الرعب المختبئ وراء جمال وبساطة هذه الصور، فالحالة النفسية المبتهجة قد تكون (ظاهريا) جذابة أكثر، ولكنها على الأرجح تعتمد على الوهمِ والإنكارِ، وربما هذا يعني أن من يوصفون بالسوداويين يشعرون بهذا الأسى والألم البالغ لأنهم يعرفون فقط ويعلمون فقط، ويتمتعون بالشجاعة للتمسك بمأساة معرفتهم المتعمقة بأمور جوهرية سارية في عروق الكون كله لا يراها أولئك السعداء..

مقالات ذات علاقة

العلامات الدالة

الكيلاني عون

الانتخابات الليبية

المشرف العام

أرأيتَ سوسة؟!

سالم الكبتي

اترك تعليق