سرد

تصميم الحصان أفضل من رسمه

لـذكرى خليفة الفاخري.

“سيأتي شخص آخر ويأخذ مكانه “. عزيزي صديق المرحوم – اندري كوركوف.

Horse in Shadow by Anne berry
Horse in Shadow by Anne berry

قضى حتى الآن زهاء ثلاث سنوات، في محاولات لا تنتهي لوضع تصميم ذكي عن حصان شاهده عند الميناء قبل خمس سنوات. كان يعرف بأن الأمر بمثابة عقاب لجريمة غامضة، وإنه راسكولينكوف أقل ذكاء، بطريقة ما هو يبحث عن تجربته. مثل الجميع، في كل خطوة كان يعرف هذا أكثر، لا شيء يمكنه فعله. القدر دوامة لا يمكنه ايقافها. ذات مرة شاهد صورة عبر احدى المدونات الشخصية، لمصورة أمريكية تُدعى آن باري Anne Berry، المولعة بتصوير الحيوانات في الحالات النادرة من الاهمال والغارقة في الظلال. احدى صورها، تُظهر حصاناً أبيضاً، بعينين معتمتين، كان رآه في بنغازي عند الميناء المهمل، حدث أن فقده دون أن ينجح في تصويره أو الاحتفاظ بشيء منه في ذاكرته، حين وجد صورة آن باري Horse in Shadow. ظن بأنه يعيش من جديد ما فقده، هاله أن تفعل صورة كل هذا، كونه مصمم فوتوشوب، أدهشته صورة من تصميم شخص آخر حتى قرر أن يعيد ما فقده داخل نيران السنين.

ما حدث مؤخراً كبير جداً. حين جلس على طاولة، لكتابة ملخص لكل شيء. أثناء الكتابة، كان جسده يتمرد أو أن روحه تبحث عن مخرج، شيء من الخطورة.

***

1

إنه الانهيار الذي يأتي على غفلة غير محسوبة، بلا حد. صديقي حسان قتل قبل سنوات، كان قد ترك لي، بعض النقود، لأننا اشتركنا معاً في مكتب للخدمات الدعائية والاعلانات، أثناء ثورة 2006 تم القبض علينا معاً، هو تم تعذيبه وقتله في احدى زنزانات القذرة، أما أنا خرجت لأن مسناً في الاستخبارات كان صديقاً لوالدي، لكنه بدوره مسن على وشك السقوط بسبب الاصلاحات المزعومة والتي قادها ابن العقيد الليبي، تعين علي بعدها أن أكون صديقاً له، ألزمه كلما التقينا، ليتحدث عن مشاكل تبدو لي في أوقات غير متوقعة، قصصاً جيدة، حتى إنني ظننتُ بأني مستمتع بالحديث معه. هو على وشك فقدان حياته بعد الثورة. كان المسن يرتعد كلما تذكر هذا، ويشرع في محاولات أليمة لتحكم في ذاته. لذا أخذ يتحدث بكل غضب عن خدماته القذرة للدولة، عن أعماله السيئة، ثم يضحك بهستيرية، معذباً ذاته، ليغرق بعدها في لحظات صمت غير مبررة، ليبدأ بعدها في سيل جارف من الكلمات الغير مترابطة. كنا معاً ذلك اليوم. التقيته فيما كنت أفكر في الاتصال المرتقب من فاطمة، الفتاة التي التقيتها في مكتب حسان، إنها قريبته الصغيرة. أظنني مغرم بها، وهذا يجعلني مرتبك على نحو رقيق، شيء من العذابات التي أحتاجها كوني مصمماً على الفوتوشوب، إنه يجعلني أشعر بأني فان غوخ وإنني ايضاً رامبرانت.

نكس المسن رأسه وقال:

” أشعر بالعار طوال الوقت، انظر للآخرين، اتمنى أن أخذ ولو لحظة قصيرة منهم لأكون شخصاً آخر خلالها، أن اشعر بأنني خارج جسدي للحظة فقط حتى أشعر بالنظافة “.

ضحك المسن بمرارة، الموج ارتطم بعنف على الصخور البنية، أسفل أقدام رواد الكورنيش، نظرت لعمق المياه، شعرت بأني انظر لعيني المسن، أمواج اخرى تدفقت من عينيه، تجمعت عند حافة مقلتيه واخذ يستنشق الهواء بشكل عميق.

كنا قد عبرنا سوق الحوت مشياً، دخلنا عدة مكتبات ومحال للملابس، توقفنا أمام معروضات قديمة، صور من سنوات المجاهدين، كاسيتات لفناني السبعينيات، عبد الوهاب الدوكالي، عبد الهادي بلخياط، القمر الأحمر، مونبارناس، اخذ المسن يتحدث عن أغنية القمر الأحمر كأروع لحظات شبابه الأثيرة، تحدث بحب عن عدة اشياء قديمة حتى إنه جلب سيرة عشق خلال فترة الشباب، حين كان في العشرين. كان قد أراني وشماً على ذراعه، لحرفيهما حكاية صغيرة عن ذاك العشق، اسمها استير. ابتسمت فابتسم بدوره وقال: إنها حكاية كانت معروفة، كانت تغني في الأفراح ويعشقها الجميع، وسط ساحة مكتظة تجاوزنا تلك اليهودية ورحنا نتحدث عن المكتبة علي الفزاني، كانت مغلقة، اخبرته بأني زرتها لأخر مرة محاولاً، استعارة بعض الكتب وارجاع مجموعة كانت معي، فوجدت أمين المكتبة بشنبه الكث، مرتدياً قميصاً من الجينز، بدا لي كأحد مهاجري امريكا اللاتينية في خمسينيات باريس أخذ مني الكتب والبطاقة ثم طلب مني أن اخذ أي كتب أحتاجها. حين نزلت لم يطلب مني أن اريه عناوين الكتب. حين عدت بعدها بأسبوعين وجدتها مغلقة، على مدى السنوات ظلت مغلقة، ثم لاحظت بأنها أفرغت من الكتب.

” الأوغاد إنهم يغلقون المكتبات “.

” صحيح، حتى الآن شهدت على اغلاق ثلاث مكتبات تباعاً، اشعر بأني مطارد “.

” هذه المكتبة بالذات كنت أزورها، اقضي فيها وقتي يومي الأربعاء والخميس “.

كنت ازورها بانتظام كل ثلاثاء.

” أشعر بأني اشتاق لرفوفها، خصوصاً في هذه الأيام، نحن بلا مكتبة، اشعر باني مشرد “.

توقفنا أمام المكتبة، تطلعنا للداخل.

” كنت أجد أمينة المحجبة، تقدم لي الكتب، كنت أشعر حيالها بالحب “.

ضحك المسن.

” حب؟ “.

” شيء يفوق مشاعر العشق “.

” تبدو لي مهتما بها “.

” كنت كذلك فعلاً، أحياناً اندم على عدم رؤيتها أكثر من ندمي لعدم استعارة الكتب، أظن بأني لست ممن يشعرون بالرض لعدم وجود الكتب، لكني اشعر بالوهن، لأن الكتب على الدوام تذكرني بالآخرين، لذا اشعر بالوهن حين أتذكرها واتذكرهم، الأمينة المحجبة مثلاً أتذكرها كلما أتذكر كتاب ول ديورانت قصة الحضارة “.

حين تحركنا كنا بجانب مقهى مكتظ على رصيف شارع عمر المختار، نحاول عبور الطريق متجهين لمكتبة أنيقة، مكتظة بالكتب. المسن أطلق التحيات على بعض المسنين، كنت أنتظره على حافة الرصيف، راقبته لوهلة وهو يحادث مسنين أخرين، بدا لي الأمر تناقضاً كاملاً.

” في ماذا تفكر؟ “.

” من هذان؟ “.

” أحدهما كان معي اثناء التدريبات، في السبعينيات، كما كان رفيقي خلال الحرب التشادية “.

” حقا؟ “.

” نعم، جميع ابناء فرقتنا ماتوا، أعني لم يمت أحد منهم في المعارك، كلهم ماتوا حتف أنوفهم، كالبعير على الفراش، أتظن بأن الأمر منطقي؟ “.

فكرت في موت كالبعير على الفراش. فقلت على نحو متعجل:

” أبداً “.

ضحك.

” والدي ذهب جندياً لتشاد، لم يمت هناك، لكنه قتل في شوارع اجدابيا، لكنهم لا يتحدثون عن الأمر مطلقاً، حتى إنني لا أعرف عن مقتل والدي ما يعرفه الآخرين، أمر مؤلم أن تعرف بأن والدك قتل دون أن تعرف كيف، هل تألم أم لا؟ هل قتل شجاعاً أم انتقاماً بسبب أمر سيء أقدم عليه؟ الأمر مؤلم نوعاً ما “.

عندها التزم المسن الصمت. مسح جبينه، حدق في السماء، كانت الغيوم تتكدس، مع ذلك بقيت الرياح لطيفة. لم يكن البرد قارصاً، والضوء البهيج يحف المكان بهالة ملائكية، مددت يدي وجعلت افرد عضلاتي على نحو استعراضي لفت نظر بعض الفتيات، ابتساماتهن دفعت الدم في عروقي.

” يبدو لي أنك نسيت أمينة المكتبة “.

” لماذا تقول هذا؟ لم أقل باني أعشقها، إنها تذكرني بشيء جميل، كما أتذكر تمثالاً رومانياً يظهر امرأة جميلة “.

” لا تهتم، تستطيع ان تتحدث فأنا في النهاية مسن، لن أسرق منك شيئاً “.

” تقول هذا متواضعاً، لكن أية صبية لن تصمد أمامك شهراً “.

” زمان “.

” حقاً ماذا عن استير؟ “.

” كانت في الثامنة عشرة، تغني مع والدتها في الأعراس”.

” حقا؟ “.

” ظنناها سهلة لأنها تكشف عن نفسها بروعة “.

” ثم؟ “.

” لا شيء، دفعت في رؤوسنا وهماً عن الحياة “.

” هل خدعتكم؟ “.

سألته لكي استفزه لكنه ضحك عالياُ ولم يجب.

اكملنا سيرنا، انعطفنا ناحية الكورنيش. كان يفكر في أمر ما، ظل يفكر حين قطعنا الطريق، جلسنا على المادة الاسمنتية. على المادة رسمة بخطاط غليظ لنصف وجه صخري حزين، عين واحدة، تذرف دموعاً سوداء في كأس، نظر إليها المسن باهتمام. ثم حول نظره لنورس يحوم في بقعة واحدة أمامنا في الهواء.

” أترى هذه الرسمة؟ “.

” نعم “.

” منذ أيام شعرتُ بانها تخصني “.

” كيف ذلك؟ “.

” إنها تحكي عن حالي، شيء ما يربطني بها “.

ابتسمت قائلاً:

” يبدو بأن استير قلبت عليك بعض المواجع “.

ابتسم بمرارة وقال:

” لا تكن أحمقاً، استير قمت باغتصابها قبل فرارهم سنة 1967 “.

عندها اصبت بالدهشة، طفقت أنظر إليه غير مصدق. كنت قرأت عن ذلك الصيف الساخن في مقالة مقتضبة كتبها سمير عطا لله عن بنغازي في الشرق الأوسط، ضحك عالياً وقال:

” كان صيفاً اشتعلت خلاله الأرض “.

” ماذا؟ أنت تمزح “.

” لو أردت ذلك! “.

قالها وعاد لمياه البحر، رفعت بصري ونظرنا معاً للنورس الحوام، الذي غطس مرتين في الأمواج المضطربة، ثم حلق بعيداً، كانت البواخر راسية عند الأفق. حاولتُ تناسي الأمر، لم أفهم فكرة حديثه بشكل كامل، لذا بدأت اعد الأمواج القادمة، سبعات، سبعات، ثم أرسل افكاراً خاصة بي، شابان كانا يلعبان لعبة قديمة، القاء فلينة في المياه ثم الغوص، للبحث عنها، من يجدها أولاً، هو الفائز، بكل بساطة، يسبحان، ثم يتوقفان يصعدان مع الأمواج لتحديد مكانها، فيسبحان مرة أخرى باتجاهها، تأخذها الأمواج بعيداً، يتوقفان ويبحثان، هكذا قد تستمر اللعبة لساعات قبل أن يستطيع أحدهم الامساك بقطعة الفلينة.

” ما رأيك بالرسمة؟ “.

سألني بصوت محايد، كأنه لم يعترف بأمر فظيع.

” عادية “.

قلت له وأنا أحاول تفادي الغضب، قبل سنوات قررتُ التوقف عن اطلاق الاحكام على الناس دون أن أكون مؤهلاً، لكن المشاعر تنجرف.

” أقصد إنها تحكي … “.

” اسمع، قاطعته غاضباً، انت الذي تحكي عن ماضيك بحرية، كأنني كنت بحاجة لمعرفة انك اغتصبت فتاة، كنت تحبها وظننت بأنها مجرد طفلة “.

عندها هز رأسه وقال متفهماً:

” آه، اليهودية “.

ثم سكت وهو يتابع المياه المضطربة وهي ترتطم على الصخور البنية. عدة أكياس وعلب مشروبات غازية ملقاة في البحر، متجمعة بشكل قبيح عند الشاطئ. يمكننا رؤية اسراب من الاسماك الصغيرة وهي تلتقط قطع الخبز، فتدفعها وهي تأكل بشراهة. بالرغم من أن الأمر بدا خفيفاً وبعيداً إلا أنه بدا ثقيلاً على القلب بشكل فظيع. تنفست بعمق شديد، ظننتُ بأن أمراً كهذا تاريخي، لطالما سمعت عنه في حياتي، كنت متردداً بعض الشيء في اعتماده كتاريخ، متردد في وضعه في أية صورة، لكن ما سمعته دفع في قلبي خوفاً عميقاً. قبل أيام كنت في طريقي على احدى حافلات الربع التي صمدت بعد الثورة، ثم دخلنا زحاماً ونحن في طريقنا على الحدائق. عندها وقف بعض الشبان في وسط الطريق يحملون السواطير والأسلحة النارية، لتنظيم الطريق. كانت الأوشام / الوشوم على ايديهم، عروقهم نافرة وقد حلقوا شعورهم، فبدت جلدة رؤوسهم خضراء، كالبرك الراكدة، لحاهم غير منتظمة، بدت كأحراش نمت عشوائياً. أحدهم وقف في منتصف الطريق، كان قريباً مني وهو يهدد أحد السائقين من احدى الدول العربية، بأنهم مع حلول السنة المقبلة سيقومون بذبحهم، كالنعاج، كان يصرخ بثورة كبيرة، ملوحاً بساطوره، ممرراً اياه على عنقه في اشارة واضحة للذبح.

حين تحدث المسن عن تلك السنة، شعرتُ بأن الأمر تاريخي ومزروع في العروق، ربما. لذا اخافني الأمر، فقبل اشهر رأيت بعيني أرتال الجند تتجه جنوباً للدخول في معركة أهلية شرسة ضد بعض من الشعب، في حرب علنية. لذا كنت غاضباً من كمية الجهل الموجودة في هواء البلاد.

” أيها المسن أية جرائم اقترفت؟! “.

” صديقي، الكثير “.

نكس رأسه ثم شرع بالبكاء بلا صوت. وهو يردد:

” الكثير، الكث… “.

لم أفعل شيئاً، بكائه كان مريحاً، نحيبه مع أصوات الأمواج بدا معقولاً جداً، طوال فترة مجيئي لم اظن بأن هذا هو التفسير الوحيد لما كان يردده الأبيض المتوسط، نحيب متواصل. حمى داخلية تسبب له الألم. لتبكي أيها البحر الحبيب، لتذرف دموعك اسفاً، ابكي ايها المسن الغريب ابكي كالأطفال لعلك تغسل بعض من ذنوبك.

” هل تظن بأنني يمكن أن أنقي نفسي؟ “.

حين هممت بالإجابة رفع كفه ومنعني. كنت أود مواساته بشيء ما بالرغم من الغضب الكامن والخوف الذي غدا بارداً كسطح حديدي.

” لا تجب “.

مسح دموعه ثم ابتسم ببلاهة وقال:

” أظن بأن الرسمة رائعة “.

لم أكن أظنها كذلك.

” لا، ليست رائعة “.

” لماذا؟ بالنسبة لي إنها رائعة، ألم تقل مرة بأن الصورة لا بد أن تحوي ذكرى كتفصيل جمالي خاص بها “.

” نعم “.

” توجد ذكرى تخصني في الصورة “.

” الجمال لا يؤلم “.

” لكن الذكرى تفعل، والجمال لا علاقة له بالحدث، الجمال أمر فريد ولوحده “.

قلت له عندها:

” انه استفزاز، هذا الشاب كان يرسم على نحو أفضل قبل الثورة، لا أعرف ما حدث له، لكنني رأيت رسوماته قبل سنوات كانت اكثر تماسكاً، ويمتلك هدفاً وفكرة واضحة “.

” أتعرفه؟ “.

” ليس شخصياً، كان في بدايات رسمه، يترك رقمه، فوجدته قمت بالاتصال به، اخبرته بأنه يرسم على نحو جيد وإنني وجدتُ رقمه عند الكورنيش “.

هز المسن رأسه:

” ثم ماذا؟ “.

” لا شيء، سألني ان كنت ظننتُ بانه رقم لفتاة “.

” ماذا؟ “.

” سألني أن كنت ظننتُ بأن الرقم يخص فتاة ما، قلت له مطلقاً أعجبتني الرسمة فأردت ان أهنئه عليها بشكل سريع “.

” بعد ذلك؟ “.

” قمت بحذف رقمه، سرت قليلاً فوصلتني رسالة منه يشكرني، لكنني حذفتُ الرسالة ولم أعاود الاتصال به، على المادة الاسمنتية بدأ يرسم صور فتيات صغيرات، أحياناً زهور وأحياناً اخرى صور بتشكيلات الجرافيك للراب، كان مبهجاً، أثناء الثورة تبدلت أفكاره، صار يرسم قروداً على هيئة الديكتاتور، ثم يقوم بتبشيعها لأقصى حد، ربما فقد أفكاره القديمة، لكنه لم يعد مرة أخرى لرسومات الرائعة القديمة “.

هز المسن رأسه دون ان يعقب.

” أتظن بأن الثورات تلغي الفنون؟ “.

سألني المسن على نحو مفاجئ، لم أكن أمتلك اجابة، لأنني لم أفكر في هذا لكنني قلت:

” أعتقد بأن الثورات لو حدثت في العقول، لكان الأمر باعثاً على فن حقيقي، لكن ان نترك مشاعر الغضب والرغبات تنفلت دون ثورة عقلية، يجعل الأمور جسدية بشكل مرعب، ويقود مباشرة للحروب الأهلية “.

” أتظن بان الثورات عاقلة؟ “.

” استغرب حين أرى مثقفاً في صف الثورة، حيث ينزل لشارع ويركل كل نتاج تاريخه الفكري في سبيل تهذيب نفسه، ليتساوى مع رجل غاضب فاقد لكل ضوابطه الأخلاقية، يغرق في الحرق والسحل والقتل والصراخ، لطالما ظننتُ بانها حالة لا تناسب شخصاً كل مجال قتاله هي الكلمات أو الأفكار أو الموسيقى “.

” لكن ظهر مثقفون للثورة “.

” اظن بأنه الجانب الكاذب من كل العملية، المثقف لا يمكن أن يكون ثائراً، لذا قامت الثورات على الفلاحين والعمال وحتى العسكر إنما أن يغدو مدرس جامعي ثائراً فتلك هي الكذبة التي تشوه العملية برمتها، إنها تقود لمجتمع مشوه “.

” اين تضع نفسك؟ “.

هكذا سألني، قلت مجيباً:

” حين وجدتُ فرصة لإدانة ما كان يحدث فعلتْ، لم أدعي بانني ثوري، ولن أفعل، لأنني أظن بأن الثورة نفسها علامة على المحدودية، ثم رأيت بوضوح بأن الفكرة كلها مشوهة، يؤلمني أن أرى بعض المثقفين الذين ظننتُ بأن احترمهم يغرقون في الموجة العالية مهللين لأمر يدمر كل ما بنوه طوال حيواتهم، تغيرت مناهجهم الدراسية والفكرية، أساليب مقالاتهم، تحولوا في خلال شهر واحد إلى مضطهدين، مناضلين، شهوداً على العصر، في الحقيقة أنا أحترم مغني الراب أكثر من هؤلاء، إنه يظل مغني راب “.

” تستطيع أن تتهمني بالجبن “.

” الجبن يغدو أرفع قيمة مما ينتهجه البعض “.

” لكنني فرحت للثورة، ربما كانوا كذلك فالظلم كان كبيراً “.

” صدقت، حين يقول هذا شخص من خارج منظومة الحكم أو الثقافة، أصدقه، أنا مثلاً اصدق الشاب العاطل، الموتور، بائع المكياطة في الأكشاك، العامل في الأسواق، الذي حبس ظلماً، اصحاب الميول الثورية الذين واجهوا النظام مباشرة، المهاجرين والأصدقاء المنقلبين، لكنني لن أصدق مطلقاً اي مثقف يؤكد بأنه مع الثورة، الأمر يشابه أن يدعي الانسان للطعام البائت لا يمكن استساغته “.

مرت لحظة صمت طويلة أضفت بعدها

” بالنسبة لمن في حالتك أيها المسن، أظن بأن التدمير الذاتي يبهجك لأنك تعتقد بأنك تدفع ثمن أخطاءك، تسعد لسقوط النظام، لأنك تكفر عن نفسك ولو قليلاً، أن تتخلص من بعض ذنوبك يا صديق لأمر منعش “.

لم يجب المسن، لم اعرف ما وقع تلك الكلمات على صدره، لكنني كنت مبتهجاً لأنني قلتها ولو بطريقة فجة. تمنيت ايجاد فرصة لقولها للجميع. عندها هز المسن رأسه وهو يستنشق الهواء بكثافة ثم قال بصوت يخالطه الزفير:

” لكنني أعتقد بأن وجود مثقفين في الثورة يهذبها “.

ابتسمت ثم قلت:

” النساء أنفسهن لم يستطعن تلطيف أجواء الثورة بكل عطورهن، أيفعل ذلك المخنثين؟! “.

ضحك المسن لا أعرف لم ثم قال:

” تبدو صاحب ثأر على المثقفين “.

” رأيت بعض ممن احترمهم يمجدون السلاح بشكل دفع الغضب لرأسي، عاهدتُ نفسي ألا احترم أحداً منهم “.

” صدقت قال المسن، أتذكر في اللقاءات الثورية سابقاً، ما يقدمه مثقفي الثورات من أفكار خلال الدورات العقائدية التي تعقد على فترات زمنية منتظمة، العدو، الاخلاص والانتماء، النظرية الذاتية في سبيل حماية انجازات الثورة، حين اتابع التلفاز، واستمع لبعض الحوارات، اعتقد لوهلة بأنني أعيش نفس الأجواء، نفس حالة التعبئة والاستقطاب يحدث في الشوارع، أظنك محق في هذا “.

نظرت إليه، بدا كأنه استعاد كامل صفاءه الذهني. أضاف بعد وهلة وهو يقف:

” مع ذلك افضل وجود مثقفين في المشهد على أن يتحكم به شباب غاضبين لا هم له سوى فرض الذات بلا ضابط أخلاقي. كنت شاباً، كنت في ذات الظروف الخشنة، بعض أفظع السيئات لم اقدم عليها لسبب واحد، وهو وجود بعض الضباط المثقفين الذين يعملون على كبح جماحنا، الوحش البشري أمر مرعب، بوسعه القتل بلا حدود اخلاقية، للضباط سطوة وللمثقفين ايضاً سطوة، وجودهم أمر جيد لهذه الثورة، مهما بدوا متذبذبين، لنذهب للفندق “.

قمنا، سرنا بذات الهدوء، في حين أخذ المسن بإصدار صفير هادئ، مقلداً أغنية لفيروز استطعت أن أميزها بسهولة، لأنها من أحب الأغاني لقلبي.

يا لور حبك قد لوع الفؤاد.

حين اكملت الصفير مقلداً، ضحك وقال

” تعرفها “.

” وتعرفني “. قلت.

شرعنا في الصفير معاً، كان الكورنيش فيه بعض الرواد، القليل منهم وقد أخذت السماء تغيم بشكل كثيف، والسيارات في حالة زحام، حين غنيت بهدوء، بصوت خفيض ولكن بوتيرة ثابته، في رأسي كنت اشعر بأن صوتي مشابه لصوت فيروز تماماً، أتخيل هذا حين أبتهج لوحدي في غرفتي، لكن أن اقدم على الأمر في وسط ساحة التحرير، حتى وهي شبه فارغة كان أمر مدهشاً، ضحك المسن ثم واصل الصفير، ثم واصلت الغناء على نحو، رائق، ابتهجنا معاً، شعرتُ بأن الأمر ملطف جداً ومريح ونحتاجه على نحو قوي. رفعت بصري للأضواء القوية، قرأت بعض الأسماء للشهداء، شهدتهم ينظرون نحونا، وفي وجههم شبه ابتسام. حين فرغنا، ضحكنا ثم اعدناها مرة اخرى بنفس الوتيرة الخفيضة، هذا المرة كان المسن هو من يغني. ثم سمعنا من مكان قريب أغنية المنفرجة لحسن العريبي. فكففنا عن غناء فيروز لشيء يمثل ليبيا أكثر.

” حين سمعتها للمرة الأولى، عرفت بأن الفرج أتى “.

قال المسن وهو يفقد البهجة القليلة التي تسربت لداخله. بالرغم الغضب والحزن شعرت بأنني لا بد أن أساعده. تذكرت ذات مرة في لقاءتنا في غرفته بالفندق حين أوقف الحديث عن بورخيس ولقائه بالشاب الذي يحمل نفس اسمه ونفس ظروف شبابه، أوقف الحديث.

” شكري “.

” نعم “.

” أتظن بأنك تكرهني، أتشمئز مني؟ “.

” أبداً “.

قلت وقتها، حين أتذكر اجابتي في ليالي التي اغرق فيها في تصميم الصور، اجد نفسي فرحاً لأنني قلت ما في صدري بعفوية وسرعة، حتى إنني لم استغرق وقتاً حتى للتفكير، حين اضفت:

” لا تعد تقل مثل هذا “.

” لن افعل “.

قالها كطفل في الابتدائية أو اصغر.

الآن حين تحدث عن المنفرجة بتلك العفوية، شعرتُ بأنه صادق فعلاً. الجميع شعر بشيء من النشوة لدى سماع هذه الأغنية لحسن العريبي. قلت له بصوت مشاغب:

” لقد غناها عبد الهادي بلخياط واقفاً “.

” حقاً؟ “.

” مع ذلك حسن العريبي كان أفضل في تأديتها “.

ابتسم المسن، بصفاء هذه المرة ثم قال:

” لأنه يعرف ما يعني بها “.

” ليته عاش ليرى ما حدث “.

” الموت أفضل من الاختبار يا صديق، افضل من الاختبار “.

هززت رأسي موافقاً لأني عرفت ما يعنيه، ما يقصده بضبط كنت عشته، فقدان الاحترام لأناس احترمناهم يوماً بسبب فشلهم في اختبار الثورة، كأننا نفقد جزء من حياتنا، من وجودنا، أمر يخلق التفاهة في الحياة. فقدنا الكثير بسبب الاختبار الصعب والمفاجئ، لم نرحم أنفسنا بالرغم الفقد بل سعينا للمزيد منه، عسكرنا كل شيء، بقي لنا تراث قليل نحمد الله بقائه عالياً، سليماً في أعيننا.

مع أفكاري هذه وصلنا للفندق.

دخلنا، قضيت معه ثلاث ساعات حين تلقيت اتصالاً من فاطمة. كانت تريد رؤيتي في الحال، حددت مكان اللقاء في المكتبة الوطنية، بالرغم من أنها مغلقة إلا إننا كنا نلتقي فيها، للحديث والنقاش، في آخر لقاء طلبت مني بعض الصور، اعطيتها صوري عن ألف ليلة وليلة، القليل من زمن مكتب الاعلانات الذي التقينا فيه.

حين نزلت من الفندق كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف عصراً. لذا اخذتُ تاكسي بسرعة للمكتبة الوطنية. في الطريق هطل المطر وتكسرت القطرات على الزجاجي الأمامي، سرعان ما غدت السماء مظلمة، لكن اضواء المدينة أخذت تنساب مع الأمطار، تتكسر ثم تسقط وتلتحم من جديد، في لعبة ممتعة مع أغنية مصرية للأفراح.

2

نزلت من السيارة، عند محطة حافلات المساكن. أردت المشي، حتى المكتبة الوطنية. الرياح تحرك الأوراق، فيما استعادت السماء بعض من وهجها اللامع. مقدمة حذائي مبللة، عنقي تجمد من البرد، أحسست بأن أذني مشتعلتين، فيما التهيت بالتفكير فيما سأقوله. كثير من الأمور عالقة بيني وبين فاطمة.

كنت ارتدي ملابس قميصاً قطنياً رصاصي اللون، سروال جينز، بحذاء مفتوح قليلاً، اشعر بالمياه الباردة تجمد أصابع قدمي اليسرى. مشاكلي مع الأحذية بدأت منذ بلغت السابعة عشرة، منذ تعلمت السير بعيداً والتفكير اثناء المشي، لذا ظللتُ أهتم بشراء الأحذية أكثر من ملابسي الأخرى، فقد سهلت قائمتي حتى النهاية باقتناء لوناً واحداً للقميص، إلا تلك التي تصلني كهدية، فأنا لا أهتم للألوان اختياري للون الرصاصي كان بسبب عدم رغبتي بتضييع الوقت كما ظننتْ لأنني كنت أخسر الكثير منه فأتألم بسبب ذلك فالصور التي أعمل عليها تأخذ مزيداً منه، حتى إنني أخذت أشعر بالإرهاق لكثرة عملي الذي يستغرق الليل بطوله. بسبب هذا بالذات تحولت لشيء باهت، لو رأيتني من بعيد لرأيت شخصاُ يعيش في المنطقة المحظورة، بضبط في نقطة الصفر، حيث يجب أن تكون الأمور متروكة لشخص واحد على الدوام، إنه الاعتدال الذي وجدته من الأدب الليبي مباشرة، اغلب اصدقائي لا يصدقون حين أخبرهم استفادتي من الأدب الليبي في تحقيق نظرة لحياتي العملية، إنها الحقيقة البشعة حيث يتوجب لكل شيء أن يكون متفرداً في وجوده، فالتاريخ أمر يعيش في كل شيء في ليبيا، إنه كالغبار الصحراوي يصل حتى للجنين في رحم أمه، إنه التاريخ، كنت قد استفدت من هذا أثناء تصميمي لصورة على الفوتوشوب اسميتها غبار الكهل.

في مقالة هذه تجربتي أنا كتب النيهوم خطة واضحة للمعضلة، استفدت منها كثيراً، كما وضعتها كمبدأ في عملياتي أثناء تصميم الصور. نظرتي للحياة مشوبة على الدوام بنوع من الرغبة في تأصيل التاريخي كأمر شخصي، خلال عملي على صورة غوردن لاينغ الرحالة الانكليزي الذي قُتل في الصحراء الليبية في طريقه للمدينة الغامضة تيبمكتو، احسست بأن التاريخ لم يتحرك قيد أنملة وإنه أطفأ محركاته في محطة واحدة. النمو الذي حدث لم يكن للأمام إنما في بقعة واحدة نحو وجهة مجهولة.

عند مدخل المكتبة الوطنية كانت واقفة، باعتدال. تصافحنا ثم دخلنا بهدوء، كانت المكتبة خالية، علب الكارتونية موزعة على الممرات، الكراسي مقلوبة، اتجهنا راساً للطابق الثالث، كنا نسمع وقع خطواتنا تدوي عبر الطوابق، مع همهمات غير مفهومة من المكاتب الادارية، صعدنا بهدوء ونظرنا لبعضنا كعشاق عدة مرات ونحن نصعد، تبتسم كأنها حالمة، ثم ترسل نظرات مليئة بالهيام، بدت لي كشيء مشابه لتوتر عميق عشته في الطفولة. لم استرسل في التفكير، بل عدت بسرعة محدقاً في الأرفف الخالية، في الطابق الثاني عبر الأرفف، كنت أراها من بين الفراغات، تركتها تتقدمني، في حين أخذت تلعب بعفوية بأصابعها على الخشب اللامع، الذي ولا شك عاش أطول من عمره الافتراضي، كان الغبار يغطي كل شيء، الضوء الشفاف ينفذ عبر الفراغات، لتصنع ظلالاً هائلة في الايحاءات، قبل مدة، كانت الفراغات الكتب أمراً رمزياً بالنسبة لي، كالقلب الذي لا يندمل، ثم ثقوب موزعة بانتظام، كالعلب الكارتونية. توقفت عند النافذة، نظرت عبر الفراغ الموحش في الخارج، استغربت من سطوة المكتبة حتى وهي شبه خالية، بالنسبة لي المكتبة أخذت أبعاداً روحية، ممتدة بلا حدود. فراغها من الكتب لا يعني شيئاً، نفس الأحاسيس تجتاحني، من خلال النافذة عرفت بأني ولدت لأقبع هنا. التفت للداخل، رأيتها ترفع بضع مجلدات من على الأرض، لتضعها على الأرفف، عبث بلا معنى، لكنني اقتربت منها، حملت معها المجلدات، مراقباً اصابع يديها النحيلة، التي ترفع بها المجلدات المغبرة، خاتم صغير أنيق، على الاصبع البنصر اليسرى، لمع بشراهة متذوقاً الضوء الغارب الشفاف.

” أليس رائعا؟ “.

” نعم إنه رائع “.

” ابي أعجب بتصاميمك “.

” يسعدني هذا “.

” لكنه يراها متشائمة “.

” حقا؟ “.

” هو يقول هذا، لولا التشاؤم الذي في الصور لكانت مدهشة “.

” الجمال أمر لا علاقة له بالمشاعر أو الانطباعات أو حتى الرغبات “.

” والدي لا يحكم على صورك، إنه يحكم على ذوقه “.

” حقاً؟ “.

” أنت تعرف بانه رسام، لا يؤمن مطلقاً بالأمور الالكترونية، إنه من الطراز القديم، يعشق تلك الأشياء التي تحتك بالجسد “.

” أعرف خطاطاً يعاني نفس المشكلة، الفن أمر احتكاري عند بعض الموهوبين، يريدون أن يبقى كما هو، والدك مثلاً لا يريد أن يفقد قيمة عمله، كما لا أريده أن يُفقد عملي قيمته، التذوق ذريعة بنظري لإخضاع المواهب، الصور، اللوحات أمور إما ان نحبها أو نكرهها، لكن الجمالية فيها أمر يفوق تلك المشاعر، الجمال أمر يعيش في الذكريات “.

ضحكت وهي تقف، كنا طوال الوقت نتحدث قرفصاء. نفضت نفسها برقة فنانة من الستينيات مشت عدة خطوات، تبعتها ماسحاً يدي، اللتين شعرت بأن الغبار جعلهما خشني الملمس، كان الممر يحوي جلالاً مدهشاً، استندت على احدى الطاولات، لاحظت قميصها الوردي المطرز، حذائها الأحمر الأنيق، الشريط الذي حول عنقها، مذكراتها الصغيرة.

” لم أتي لأتحدث عن هذا “.

” حقاً؟ “.

” نعم، أردت أن أتحدث معك فحسب ولكن ليس في هذا “.

” نحن نتحدث، اليس كذلك؟ “.

” ليس وأنت معكر المزاج، أحب طريقتك في الحديث، لكن ليس وأنت معكر المزاج “.

قالت بأسف واضح وتردد.

لا أعرف لم كان مزاجي متعكراً، لكنني كنت أشعر بغرابة في حديثي، تجاهلتني في كل مرة، قلت في نفسي بان المسن هو السبب. لذا تنفست بعمق، غبار المكتبة محاولاً أن استعيد هدوئي، عندها شعرتُ بأني هادئ حتى وأنا معكر المزاج، وإنني سعيد على نحو غامض، كالسماء المغيمة، كالليل الذي لا يعني موت الشمس. كنت أحاول أن أعرف شيئاً عما يحدث في داخلي، ثم اكتشفت بأني أفكر على نحو بعيد عن المنطق وإنها لا تستحق كل هذا مني، يجب أن لا أفكر على الاطلاق، لذا فضلت النظر إليها فحسب. اخذتُ انظر ثم شعرت بأنني أتمتع بالنظر المتواصل، كانت مشاعر متضاربة تتموج في ذهني خلال تحديقي بها، حتى إنني أدركتُ أموراً كنت اجهلها، خصلة من شعرها تطايرت، كتاب عن موسوليني كان خلفها، سيرة ذاتية ضخمة، رأيت ايضاً بأنني أعيش حلماً وردياً يشابهها.

” ما بك؟ “.

تنهدت قليلاً ثم قلت:

” تحدثت مع شخص لا بد بأنه سبب في تعكر مزاجي “.

” من هو؟ “.

” لا تهتمي، ماذا فعلتي اليوم؟ “.

” ليس الكثير، خرجت والتقطت بعض الصور لصالح مدونتي، أحياء غارقة في المياه والفقر وأطفال يعانون البرد، ملئت بها صفحتي على الفيسبوك ومدونتي “.

فاطمة منتسبة لعدة جمعيات خيرية وهيئات صحفية. منذ بداية الثورة وهي تعمل على نحو متوسع مع عدة جهات عالمية، حتى إن بعض صورها نشرتُ في الصحف العالمية كما أن مقالة قصيرة لها عن حماس المرأة الليبية للثورة نشرت مترجمة لسبع لغات. تحاول أن تغدو صحافية. تلقت عدة دورات مع عدد من صحف الكبرى، في جهازها وحسابها على الفيسبوك العشرات من تلك اللقاءات، في تركيا، ألمانيا، فرنسا، تونس، انكلترا، ماليزيا، بروجيا الايطالية، مع دورات داخلية ومهرجانات، تستطيع أن تقضي يوماً كاملاً تتابع صفحتها دون أن تشعر بالملل. تذكرتُ ما كتبته خلال أيام، في صفحتها على الفيسبوك.

” ما هي قصة الأيفون؟ “. ضحكت، كانت قد كتبت في صفحتها أنه سقوط جهازها الأيفون4 أمامها دفعها للانهيار والبكاء.

” لا اعرف ما حدث، في المطبخ دخل ابن اختي، كان في الخامسة عشرة، سحب جهازي وراح يلعب به، كنت أتحدث مع أختي عن رحلتي لبروجيا، ضايقني أن يحمل الصبي الجهاز، شيء ما دفعني لقلق الغير المبرر، فبدأت اتابعه، وفي اللحظة التي حاول بها الخروج، ناديت عليه، فراح يضحك ويقفز بالجهاز، محاولا فك شيفرة السر. قمت من مكاني محاولة أخذ الجهاز منه، لكنه بحركة ظننتها مقصودة ألقى بالجهاز، فصدر عن سقوطه صوتاً عاليا، صرخت على اثره كالمجنونة، رفعته ثم دفعت الصبي وقلبت الجهاز، كان يعمل بشكل طبيعي، لكنني وعيت لنفسي، ورأيت بأن عماد ابن أختي وقع على رأسه، نزلت دموعه دون أن يصدر صوتاً وهو يحدق إلي بغضب، عندها شرعتُ بالبكاء متواصل، حاولت أختي أن تهدئتي بلا جدوى، شرعت بالانهيار والصراخ “.

كنا على الطاولة، بعد أن مسحنا الغبار، لمست كفها وسألتها:

” ما الذي دفعكِ للبكاء؟ “.

” لا أعرف، شعرت بأنني أفقد الكثير، بأنني أفقد أغلى ما لدى، لم أتوقع أن يكون تعلقي بالجهاز بهذا الشكل، اليس غريباً؟ حتى إنني لم أكن أعرف ! “.

ابتسمت وقلت:

” ربما ذكرياتك المتضمنة في الصور هي ما دفعتك للتعلق به “.

هزت رأسها ومطت شفتيها:

” ربما، لكنني شعرت بالفراغ، كأنني لست ما أدعيه “.

” ليس لهذه الدرجة، اشياءنا الخاصة جزء من شخصيتنا، نغضب حين يلمسها أحد “.

” حقاً، ألديك شيء خاص؟ “.

” حسنا، اذكر بأني مرة هاجمتُ أخي لأنه يستعمل حذائي، الأمر أخرجني عن طوري، فلم أحتمل أن يرتدي حذاء اقتنيته في لحظة صفاء “.

ضحكت قليلاً ماسحة دموعاً تتلألأ في عينيها العسليتين، فبدت متوهجة كقطعة ذهبية. تأملت في شبابها الغض، بدت لدنة مثل التوفي تعبق برائحة نعناع منعشة.

” كلانا مجنون “.

” شن وطبقة “.

فضحكت مرة أخرى، هذه المرة بصوت كرنين النقود.

” ماذا تقصد؟ “.

سألت بخبث رقيق، فقلت مبتسماً وأنا أمثل في دور ملاك:

” لا أقصد اي شيء “.

قلتها بحذر، ضحكت مرة أخرى، فأحسست بأنني أحسن حالاً.

” حتى لو قصدت فلن تقول “.

” أعتقد بأنني سأقول لو كنت أقصد شيئاً “.

” هل تتفق معي دائما؟ “.

” أتفق معك الآن “.

” دائما؟ “.

” لا أعرف، ربما لو ظللتِ هكذا “.

” كيف؟ “.

” كما أنتِ الآن “.

” لا تريديني أن أتغير “.

” هل تستطيعين البقاء دون تغير؟ “.

” لا أعتقد، لكن لو استطعت ألن يكون الأمر رائعاً “.

” سيكون رائعاً جداً، كأننا نعيش في الأبدية “.

ضحكت وهي تقترب مني، شعرتُ بحرارة جسدي، وتلفت عبر الأرفف إلى السلالم، كانت خالية تماماً حتى الطابق الأول. لا صوت ولا أدنى حركة.

” أتشعر بي؟ “.

” نعم “.

” كيف تشعر بي؟ “.

” أحياناً تكونين كالحمى في جسدي، تجعلينني اشعر بأني أعيش في عالم غير واقعي “.

” هل تحب هذا؟ “.

” يعلم الله إني احبه “.

” أظن بانك تفعل “.

” ظنك صحيح “.

كانت قد لمستني، فاشتعل جسدي بعنف. طوقتها بذراعي، شددتها نحوي بقوة، حتى تأوهت في لحظة صغيرة هادئة، مرت عبر ارجاء الصالة الشبه الخالية من الكتب الأرفف، المجلدات الثقيلة المكدسة عند زوايا المعتمة، أخذتُ احدق في عينيها باتصال، بدت لي حزينة، حين قبلتها قبلتين حانيتين صغيرتين، ثم تركت يدي تعبر على ظهرها بتشرد واضح، سمعتها تمتم بكلمات تائهة، أكثر شروداً من يدي العمياء. حين هبطت على فمها واحسست بمذاق لسانها الدافئ، أخذ جسدي يتمرد في ثورة عارمة. اشتممت عبقها الدافق، ضغطت عليها باستمرار، ثبتها على الأرفف، امسكت على الرف بيدي اليمنى وضغطتها بقوة، حتى تألمت، لكنها كانت تتحمل بقوة، هجمتي البربرية، تنفسنا قليلاً ثم عدنا لجنوننا الشهي. طافت في ذهني أشياء كثيرة، نمت رجولتي بشدة، تصلبت على نحو مربك، عندها تنهدنا معاً، في عيني دفقة عشق هائلة، غرست أنفي في شلال المعتم لشعرها الحريري وراحت التقط انفاسي المبعثرة، في حين كانت تبحث عن نفسها في عنقي. بعدها ضحكنا معاً، جالسين على أرضية المكتبة. فنانة لبنانة كانت تطالعنا مبتسمة من مجلة المصور. نظرنا إليها معاً مثل كل شيء في ذلك اليوم. فقررتُ أن أغدو أكثر بربرية.

” أترين هذا؟ “.

” نعم “.

” ما رأيك؟ “.

عندها قامت بحل عقدة شعرها، تراجعتْ للوراء حتى النافذة ثم تطلعت إليها. في تلك اللحظة هبت رياح تخللت احدى النوافذ المفتوحة، فتطاير شعرها كراية امبراطورية معتمة، في جهة واحدة كشلال محاصر. أغمضت عيني ثم فتحتهما، احسست بنشوة بالغة الروعة، لن أنساها قط.

3

كما حدث في نوفمبر 2007، عدت لغرفتي، فتحت جهازي، جلست استماع لهديره مع تساقط الأمطار في الخارج. كنت قد أجهزت على عدة شطائر، اشتريت كتباً جيدة، دفاتر جديدة، فانيلا شتوية، عليها شعار خرتيت مدرع. رصاصية.

تمددت على سريري، على السقف الضوء الرمادي، استرخي جسدي. كنت قد تلقيت الأموال التي قررها لي حسان. قدمها لي الطبيب النفسي، بدا متأسفاً.

” يجب أن تحصل عليها “.

” لا أظن بأنني استحقها “.

” إنك تستحقها، لا تدعي غير ذلك، لم ارى حسان متحمساً لشخص كما تحمس لك، بدا لي متوازناً طوال فترة معرفته بك ثم إنها ثمن لوحاتك التي بيعت. إنها نسبتك من اربع، ثلاث منها رفض اصحابها دفع أثمانها “.

ألفين وخمسمائة دينار ليبي.

” ماذا ستفعل؟ “.

سألني الطبيب النفسي وهو يشعل سيجارة:

” لا شيء “.

” عائلة حسان تركت البلاد “.

” سويسرا؟ “.

” نعم، هل ستبقى في بنغازي؟ “.

” لا مكان آخر “.

” أتظن بأن هذا جيد لك؟ “.

” أعتقد، لا مكان آخر لي “.

فقال وهو ينفث دخاناً:

” لطالما تحدث حسان عنك “.

” حقاً؟ “.

” كان يظن بأنك فنان “.

” هكذا هو يحب أن يعلي من قيمة الناس “.

” هل تعتبر نفسك فناناً؟ “.

فقلت:

” لا أعتبر نفسي شيئاً إلا أنا “.

فقال وهو يقترب واضعاً يده على كتفي:

” لكنني أعتقد بأنك فنان، بدوري رأيت لوحاتك عظيمة، سمعتُ بأنك تحب تسميتها بلوحات، حتى إنك تراها كذلك “.

” ألا تراها أنت؟ “.

” إنها لوحات، يعلم الله إنها لكذلك، أذكر بأنيي كنت أدعوها صوراً، لأنها تبدو كذلك في الوهلة الأولى لكل مشاهد، كيف بدأت بها؟ “.

فقلت له وقد سحب هو يده، التقط سيجارته بأصبعيه وأخذ يحك صدغه، مضيقاً من عينيه:

” صديق لي كان يهوي الفوتوشوب، يصمم صور أنيقة، رأيتها فشعرت بأنها أمر احتاجه، بأنه شيء يمس جزء من روحي كالإيمان، فتعلمتُ الأساسيات منه “.

هز رأسه وقال:

” لا بد بأنه أستاذ فريد وفنان حقيقي “.

” بل موظف في شركة نفطية “.

” غريب “.

” أتعتقد؟ “.

فسألني قائلاً:

” أليس غريباً بالنسبة إليك؟ “.

قلت له:

” أرى بأنها طبيعة الحياة “.

” طبيعة الحياة؟! إنها طبيعة غريبة”.

” نعم، صدقت “.

ألقي بسيجارته عند حافة الرصيف ثم قال:

” أتعرف؟ لا أظن أن بقاءك هنا أمر حسن “.

” لكن لا مكان أذهب إليه “.

سمعني متفهماً ثم قال:

” عد إلى الجنوب “.

” لا أستطيع. هذا بمثابة العودة للجحيم “.

” بنغازي جحيم على كل حال بالنسبة إليك، إنهم يسحلون عبر الطرقات “.

قلت بحسم:

” لا مكان آخر “.

فشدني من يدي مخفضاً صوته، كان بالقرب من مكتبة علي الفزاني، قال:

” لدي بعض المعارف. إنهم يتحدثون عن انقلاب في الدوائر الاستخباراتية “.

” أمر مؤسف “.

” بل مرعب .. قال بصوت عالي سرعان ما أخفضه .. سيضربون عبر الجامعات، أنت سمعت خطاب الزعيم، إن عدتم عدنا. هناك شائعات عن تحركات ضد بعض عناصر في الجامعة، إنهم حذرون للغاية، قوات الأمن الجديدة، الأمن العام، يتم توزيعها عبر المدن وبنغازي. للمراقبة والتدخل. موت حسان مجرد بداية، خروجك أمر مستغرب، حتى إن البعض ظنك واشياً، أنت في خطر حقيقي، لا تدعي بأنك لا تشعر، انت في خطر محدق، اسمع، حسان تحدث عنك بشكل جيد، قدم تقارير مشجعة عنك، بشكل جيد، لذا أظن بأنك بريء. بالرغم من خروجك المشبوه، حتى إنهم لم يعذبوك، هناك أناس يراقبونك الآن. لا تجعل من نفسك بطلاً، فعل حسان ذلك، هو الآن تحت تراب، أنت لا تعرف حجم الخطر الذي أنت فيه “.

كنت استمع إليه شاعراً بالدوار والخواء، عبرت بنظري عبر الشارع محاولاً تخطي الضيق الذي أحسست به. مكتبة علي الفزاني حتى مبنى الجوازات، أكشاك الصغيرة لبيع الصحف، محال القهوة ذات الواجهات الزجاجية، محال الملابس، المارة، المكتبات التجارية، نهاية الشارع، الصوت القادم من البحر، رائحة الكتب القديمة، زعيق النوارس مع موسيقى الراب من بعيد.

” خطر، اي خطر؟ “.

سألت الطبيب النفسي فقال:

” شكري، فهمتني جيداً، حتى إنك مراقب من قبل أن تأتي إلى بنغازي، وجدت ملفاً كاملاً عنك في الاستخبارات، لدي معارف، وجدناه منذ مدة، ظنناك واشياً، لكنك مراقب، ربما بهذه الطريقة تم كشف حسان، اللعنة، اسمع طلبنا من حسان بأنك مراقب وإنك خطر عليه، لكنه ظل يرافقك، ظننا بأنك تعمل مع الاستخبارات، لكنني الآن أعرف بأنك لا تعمل، لكن الآخرين لا يصدقون، أنت في خطر، حتى إن الأمن يراقبك، قل لي ماذا فعلت في الكفرة “.

كنت استمع إليه مشتتاً، كأنني استمع لصوت من الكاسيت، لم أشعر بأني واقعي وقتها، ظللت أحاول أن اقنع نفسي بما يحدث، كان الطبيب يتحدث بجدية، يدخن بشراهة، بدلته المخططة القادمة من السبعينات، واصلت النظر غليه حين تذكرتُ حواراً قديماً مع صديق من بلدتي، كنت اعرف بأنه يعمل لدى الدولة، في بعض المهام التي لم أهتم لها، ربما في الأجهزة الأمنية، وقتها كنت أعمل في مقهى السويداء، خلال الأيام الأولى لمجيئي بنغازي، زارني في ظهيرة، خلال صيف 2005، جلسنا معاً تحت ظلال شجرة عملاقة، نراقب الظلال والأشعة التي تتخللها، على التربة الرمادي المروية بشكل جيد، على طريق المطار، علب مشروب غازي، قنينتي مياه معدنية، قال:

” حضرت اجتماع أمني صغير “.

لم أفهم سبب اخبري بهذا لكنني ابتسمت ولم أعقب.

قال:

” لقد ذكروا اسمك خلال الاجتماع “.

” ماذا؟ لماذا يتم ذكر اسمي في اجتماع أمني؟ “.

تساءلت في نفسي.

” احدهم قال بأنك تملك بريداً إلكترونياً، تم اختراقه، قراءة ما فيه، فوجدوا معلومات مرسلة “.

لم يكن هذا صحيحاً، لكن الدولة لا تهتم لصح أو الخطأ، لم اشعر الخوف، كما يجب. لم أعقب حتى فضلت أن أراقب الأجواء الصيفة بدل الكذب المتعمد.

فأخذ يتحدث عن دفاعه لي هناك.

حين تذكرتُ هذا قلت للطبيب:

” ملف عني؟ “.

” نعم “.

عندها شرحت له الأمر كما سمعته وكما حدث. استمع بانتباه، سأل عن أكثر شيء أقدمت عليه في البلدة، فشرحت له عن منظمة صغيرة كان من المفترض أن تحمل اسم، منتدى فكر حر، وإن الأمن طلبوا ملفات خاصة بنا، لكننا انهينا الموضوع سريعاً.

هز رأسه وقال:

” طالما إنهم لم يقبضوا عليك وقتها، فإن الأمر ليس مهماً، لكن كما قلت لك ما تواجهه في هذه الأيام يجعل من كل حدث في ماضيك تهمة مؤكدة، كبيرة. إنهم ماهرون في استدعاء الماضي “.

لم أملك إلا أن استمع بصمت، فيما أضاف هو:

” صديقك الذي أخبرك ما مدى ثقتك فيه “.

فقلت بلا تردد:

” بلا حدود “.

ابتسم بسخرية ثم قال:

” إذن اخلق حدوداً الآن “.

نظرتُ إليه متسائلاً، فقال:

” إنهم لا يضمون أحداً لزمرتهم إلا إذا وثقوا بأنه سيقتل والده بأمرهم، طالما أن صديقك معهم، فهذا يعني بأن ثقتك فيه امر أشبه بالانتحار “.

لم أتكلم سرنا لمسافة بسيطة ثم قال مضيفاً:

” خلال أيام سأعمل على تدبير مكان لك، فهل ستتقيد بكلامي “.

” نعم “.

قلتها فشعرت بأني يائس بشدة.

” جيد، جيد إنه أمر حسن، سأتولى الأمر من هنا، أحسنت “.

خلال نوفمبر 2007 بدأت أرى.

نوفمبر هذه السنة، في غرفتي شعرتُ بالخوف. لا أعرف السبب، كنت ارتب فراشي حين شعرت بتوتر عاصف يجتاح جسدي. جلست على حافة السرير وجاءت عيني على كتاب لدي ظللت احدق فيه، محاولاً فهم ما يحدث لي. ارتجاج في صدري عميق، أخذ يندفع للخارج. حاولت التحكم فيه فشرعت أسعل على نحو مؤلم، دون أن أكون قادراً على تحكم بالأمر، أحسست بأن اجرح صدري بالسعال الجاف، سكاكين تقطع جوفي بفظاعة. في لحظات صغيرة رأيت فاطمة ثم فتحت كتاب دوستويفسكي، في الصفحة الأولى وجدت ما كتبته قبل سنوات، تاريخ اقتنائي للكتاب.

نوفمبر 2007، سوق الحوت، بائع متجول، بنغازي.

اهداء صغير: إلى روح حسان، حين يموت الأصدقاء قبل أن نتعرف عليهم، يظل جزء منهم حياً في التفاصيل الصغيرة.

في تلك الليلة أتممت صورتين لحسان، احداهما تمثل جلسة هادئة في شقة، بصحبة الكتب.

***

كان تائها في عقله، يحكي حكاية فيما تدور في ذهنه حكايات أخرى، كأوراق الخريف. لا يحكي كل شيء، إنما بعض المشاهد تمر عليه بلا تقصد.

فمثلاً:

خلال احدى عصريات ديسمبر 2007، كان برفقة حصان، موثوق عند الميناء، كان أبيضاً بنظرات معتمة، اسماه: الكهل الأبيض. لم تكن حياته أقل تعقيداً، لكنها تتميز بالتوازن. خياله جامح. فوق احدى البنايات المطلة على ميدان المعلم، شاهد فتاة على السطح احد المباني، وقد أطلقت شعرها للرياح، بدت له كأنها فتاة تتميز بجموح غريب. وقف في وسط الميدان ثم أخذ يتطلع إليها. السماء مغطاة بغيوم رمادية، لامعة. لم يكن البرد قارصاً، بل هناك نوع من الدفء بدأ يشيع من حوله، في أثناء تطلعه، التقت عيناهما. شعر بها من تلك المسافة، تلفتت إليه، ثم استمرت تنظر لوهلة، سخن رأسه، تقدم خطوات، في اللحظة التي عادت خلالها الفتاة، تطالع الأفق البعيد من عليائها.

بنغازي كانت محض مباني في تلك الآونة.

شيء سحري أحاط به.

كأنها لمسة مقدسة، جعلته يدرك ما كان لا يدركه، بنغازي غدت جسداً حياً، عضلات، بشرة، دماء تجري في العروق، نظرات، شهوة عارمة وراء المباني.

” أتعرف؟ بدت لي ملاكاً يستعد لتحليق “.

ضحك قليلاً، وكم كان الأمر مبهجاً فحين تحرك الحصان، أصدرت السلسلة الصدئة تلك الضحكة المكتومة.

” تضحك أيضاً، أتستعمل قيودك للضحك؟ “.

ظل الحصان يتحرك حوله، فيما غرق هو في تتبع حركاته في تلك اللحظة التي قفزت فيها سمكة من البحيرة، مخترقة المياه، غاطسة في أضواء المدينة، بجسدها المبلل، الذي لمع كحد سيف هندي.

” أتعرف؟ “.

قال للكهل الأبيض الذي توقف متطلعاً، ثم اكمل:

” أتعرف بأن هذه اللقطة تصلح لأن تكون رمزاً لمدينة بنغازي، السمكة القافزة من المياه! ربما تصلح كرمز لية مدينة ساحلية، على المتوسط، المتوتر يقلق وجودي، مرافئ بيروت، مارسليا، الساحل الأزرق، اسكندرية، كل مدن الفينيق، يمكن أن تستخدم السمكة القافزة كرمز لها. الحياة ليست سوى لقطات نعيشها، لم تعد كما في السابق “.

لم يهتم به الحصان كثيراً.

” الأمر ذكرني بفيلم المهمة المستحيلة الجزء الأول، اتذكر تلك اللقطة عن توم كروز، حين يقاتل الشرير عند الشاطئ؟ لا بد بأنك تذكر شعره أيضاً، حين يتشقلب لضرب المسدس من يد الشرير وحين يقفز مبتعداً، الشعر يتحول لشيء غريب، مستقل عنه، يفرض وجوده في المشاهد، هل هي براعة المخرج أم براعة توم كروز أم ببساطة براعة الشعر؟ لقد رأيت الأمر عدة مرات أتصدق إنها نادرة الحدوث أن يختصر كل شيء في مجرد جزء من الصورة، هالني هذا يا صديق، هالني جداً، أن نغدو مجرد جزء منا، أحسست بالرعب، الرعب البارد “.

توم كروز بالنسبة إليه شخص غريب، كان احد موديلاته الأولى في التصميم، اتخذ من فيلم حرب العوالم ركيزة لتجريب بعض أكثر خيالاته جنوناً.

ظل الكهل الأبيض يلتفت يمنة ويسرة، عندها لاحظ ذلك الجرح الصغير المتوحش، عند نهاية القدم وبداية الحافر. نزل على التربة السوداء، ببطء اقترب منه، في حين تراجع الحصان قليلاً، هز راسه محتجاً عدة مرات، لا يعرف لم اقترب بتلك السهولة، انحنى كخبير وتطلع عن قرب، لجرح الحصان، لم يكن صغيراً كما تخيل، بل كان يشد على جسده، السلسلة الصدئة تأكل من قدمه، تأسف بشدة، تطلع حوله مراراً، لأول مرة يتسأل جدياً عن صاحبه، كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف، عبر السماء الرمادية أخذت الأضواء اللامعة تؤذي العينين، لكن الغروب أخذ يتلون عند الأفق، يمكن ملاحظة هذا بالرغم من كثافة الغيوم، التي لم تصل بشكل كامل للأفق، فبدت حواف السحب، مشتعلة كأطراف مبرد كهربائي، انطلقت اشعر من ورائها لتسقط مباشرة على سطح البحر، الأفق مشتعلاً وقت الغروب، تحرك ببطء ناحية الحصان، لمس كفله ببطء، فانتفض كفله مرتجاً، عندها لاحظ بأن السلسلة متفككة وإن الوتد المغروس، لا شيء.

” ما هذا أيها القوي؟ “.

انحنى متفحصاً السلسلة الصدئة، كانت متخلخلة، بحيث أن اقل جذبة من الحصان ستغدو كافية لأن تهشمها تماماً، لأن تحوله إلى قطع من التاريخ المكان، لا يمكن لسلسلة كهذه أن تكون قد أعجزت حصاناً قوياً كالكهل الأبيض، لا يمكن لهذه الحقيقة أن يقبلها اي انسان. انحنى مستغرباً من مدى ما قد تكون عليه أوهامنا من واقعنا الخاص، حين تكون مشاكلنا الكأداء محض اشياء لا تمثل تحديات مهمة لطاقاتنا الداخلية ولقدراتنا على التقدم، لكننا نظل نرزح تحتها، حتى يأتي ذلك اليوم الذي نشعر به بأننا فعلاً لم نكن عبيداً لتلك الظروف.

” ايها القوي أنت مربوط بخيط من خيش !! “.

بين أروقة المكتبة الوطنية حكي لها عما حدث، كانت فاطمة تستمع لقصة اللوحة بهدوء بالغ، كأنها تجد بذور أطروحتها في حكايتي مع الكهل الأبيض:

” لمست السلسلة، الحديد الصدئ كان خشناً، مبللاً قليلاً بالمياه السوداء وشديدة البرودة، نخر الحصان حتى تدفق البخار الحار من جوفه، من تلك الزاوية بدا كجدار آيل للسقوط، كثافته كبيرة على الرؤية، لم تكن الزاوية المناسبة لأية صورة يمكنني أن أصممها، لكنني شعرتُ بانها زاوية جديدة لمعرفة ما يحتويه هذا الحيوان من وقار، نظرته المظلمة، عنقه الثخين وهو يلويه ليستطيع رؤيتي، حدقت في عينه اليسرى المعتمة، ثم قلت:

” ليس محكماً بوسعك أن تكسره بسهولة “.

كنت حكيت له حكاية الأحصنة القومية، ثم شرحت بأن النسور والصقور والأحصنة تداعب أحلام الديكتاتوريين، كانت عصرية مدهشة، تحدثت بحرية عن ركض الجنرال الليبي على حصان أبيض في تلك الفترة، كانت التربة مبتلة، المدرج مليئاً بالمشاهدين، الحماس بلغ ذروته، ثم تمنيت وراء الشاشات أن يجنح الجواد البيض حتى يسقط المستنقع الراكد فوقه، لكنه أمر لم يحدث، فالخيالات هي وحدها التي تجعل من الأحصنة معارضة لجنرالات المليئين بالوحدة، حتى إنه يتماهى مع حصانه ليركض به عبر مساحات الخيالية، يتخيل بهدوء بأنه من يقطع تلك المسافات المبتلة، جسده هو ما بين فخذه، القوة العضلات، الجسد الذي يرتج تحته بكل تلك التقلصات، لم يكن السرج أمراً موجوداً بين الجنرال والجواد الأبيض في تلك الليلة، كثير من الأقمشة. حكيت للحصان في تلك العصرية كيف بأن الحياة تحوي هذه السخريات. حتى ماو تسي تونغ سبح مسافات هائلة في النهر يانغ الصيني لمجرد أن يثبت بأنه قادر على مواجهة الأمواج، وإن جسده لا يزال قادراً. حكيت له أيضاً عن احلامي حين تتحول أمواج الأنهار إلى أحصنة هائجة.

” أنت ولدت لتستخدم قدميك، كيف رضيت البقاء في هذه البقعة المريضة، هذا المكان مريض، لكنك لست كذلك، أنت أكثر من حياة “.

شددت السلسلة مجرباً، الظلمة كانت قد هبطت، الأضواء الكابية، السيارات المسرعة مع زخات المطر التي جعلت من الاسفلت مصقولاً، تسبح عليها الأضواء، وتنساب من فوقه عجلات السيارات بهياكلها بخفة كاملة، شيء باهر “.

كانت تستمع إليه باهتمام.

” لم أعرف كيف أنظر إليه “.

” لكنك تمتلك له صوراً “.

” هذا لا يعني شيء، أنها لا ترقى لمستوى الصور، لا ترقى لأن تكون صوراً، القليل الذي أمتلكه هو قدرتي على تصميم ساقيه، أحياناً الحصان أمر أكثر من مجرد أرجل “.

فضحكت وتردد صوتها عبر الأرفف الخالية. كنا قد هدأنا من حمى جسدينا دون أن نكمل رغباتنا الجامحة. إنها جبارة، بوسعها أن تغدو واعية لكل شيء حولنا، أقل حركة.

” أنتِ منتبهة كمهرة “.

” لا تكن غبياً “.

” أردت أن أقول هذا فقط “.

” حسناً، قد قلته، لا تعد لمثل هذا “.

” ألا تحبين أن أسميك مهرة، لدى صورة رائعة لمهرة تركية، ستتمين أن تمتلكين ما تمتلكه “.

” ماذا أتراني أقل مما تظن؟ “.

” ابداً “.

” أنت لا تحلم بفتاة مثلي “.

” حقا؟ “.

” أنا فنانة، هل ستجد فنانة مثلي “.

” هذا يعتمد على مجالك “.

” ألم تعرف؟ “.

بعد الصمت قالت:

” أن تصميم صورة حصان على الفوتوشوب أفضل من أن ترسمه “.

” صحيح، سيكون غير هذا أمراً مكرراً ومملاً، إن الواقع كما نحلم أجمل بكثير من أن أعمد إلى تشويهه بالألوان، تقديس علني “.

” حقاً؟ لكنك تعمد على التلاعب بالظلال “.

” لست أنا، رؤيتي للأمر كان معتمداً على الأضواء، الظلال، العتمة مع الزوايا، الكهل الأبيض كان واقعاً تحت سطوة رؤيتي لها، حتى المياه كانت تتلاعب بصورته مع الرافعات الصدئة، أحياناً اظن بأن مجرد الوجود، أمر خيالي. أشعر بأنني رأيت أكثر من الحصان الأبيض “.

لم تعقب لذا أكملت:

” لم استطيع مطلقاً اتمام صورة ترضيني، لأن صورة الحصان الأبيض بالنسبة لي تتطلب تفسيراً لكل ما مررتُ به في حياتي، أتصدقينني حين أقول بأني أشعر بأن مجرد انتهائي من تصميم الكهل يمثل موتي الشخصي. هكذا أشعر ويبدو لي الأمر سخيفاً أن أتماهى مع صورة “.

انحنى سارداً:

” لم أكن أعرف ما أفعله. رؤية الدماء على رجله، الحزن في عينيه، الوحدة، شددت السلسلة اقتلعت الوتد الصدئ من الأرض، فانزاحت التربة السوداء، ثم التمعت، بطرف الوتد المدبب قمت بفتح ولوي السلسلة عند القدم “.

رفع رأسه نظر للفتاة، التي بدت له كحلم طارئ:

” خلصت رجله، قمت درت حوله، نظرت باهتمام، كامل جسده. وضعت كفي المفرودة “.

كان يحدق إلى كفه، كان يرتجف، تابعته هي بصمت:

” سحبت الرسن، من فمه، خلصته، اسقطته على الأرض، سمعت المياه لكنني لم أرى، كان الحصان قد أطلق لنفسه العنان، تدفق الماء من بين ساقيه، تراجعت قليلاُ، كنت اتنفس بعمق، الهواء شديد البرودة، تلك الصورة للحصان المحرر أمر مذهل. فقد شد من نفسه، استقام ظهره، شفط بطنه، وانفتحت مناخيرها، أغلقها، ثم فتحها على أقصى اتساع، مليء صدره بهواء، تطلع ناحية لوهلة، ثم خمش الرض بحافره، لمطت كفله، فرأيته ينطلق بخفة، برشاقة، كأحصنة السيرك، كأحصنة العروض العسكرية، كأن على ظهره ديكتاتوري أخلاقي، ركض متقافزاً ببطء، بأناقة، تطلع لعدة جهات، هز رأسه محتجاً فسمعت وقع قدميه على قرميد الرصيف، ثم تكاثرت الأصوات، زاد من سرعته، خبباً على المادة، حين استجمع شتات ماضيه، أخذ يعدو بشدة، بقوة، في خط مستقيم، كنت أتقدم صاعداً المادة الاسمنتية، قبتي الكنسية، الحصان، سعف الدوام، أضواء السيارات، بعض الصراخ، للأطفال والرجال. أخيراً انعتق. تطاير شعره، الرياح تخللت كل مفاصله، كل شعرة في جسده، لا بد بأن الدموع تملئ عينيه. كنت أسمع طرقات حوافره على الاسمنت. إنه السحر. من على المادة رأيت بضع رجال يركضون في الجهة المقابلة، كان أحدهم قد خرج من مقهى صغير، أخذ يطارد الحصان وهو يشير بيديه، آخران يحاولا ايقاف السيارات المسرعة، في تلك اللحظة انحرف الحصان، لجهة الشارع، وفي تلك بالذات رأيت عينه اليسرى، متسعة، برعب، انطلق ناحية الجهة التي أقف فيها، مر بقربي، تناثر الهواء، الصوت، اللون، كان عملاق، اتسع بشكل مثير للرعب، التفت فوجدته يحاول الانعطاف مجدداً اصطدم بعدة سيارات، لكنه عبر من بينها كحصان من حروب العالمية الأولى عائداً لمساره الأول، على الاسفلت في وسط الطريق، أخذ يركض، عيني لا تفارقانه، مر بقربي مرة أخرى بنفس القوة، وقع خطواته، نخرات البخار، في لحظة قصيرة، لثواني معدودة أغمضت عيني، حين فتحتهما كان صهيله يملئ الأجواء مع أصوات الفرامل قوية، كانت شاحنة مسرعة اندفعت من المنعطف تحاول التوقف، جزئها الخلفي في جهة وقمرة السائق في جهة أخرى. رأيت الكهل الأبيض يصطدم بقوة بالجزء الخلفي، ويقذف كقطعة خشبية بعيداً، في لحظة سكتت خلالها الأصوات، لكنني كنت اسمع زخات المطر عند كتفي “.

” أوه “.

قالت فاطمة.

” مات؟ “.

” مع اقترابي، رأيت بركة الدماء من بين أقدام الرجال الذين أحاطوا به، اقتربت بهدوء، الجسد ممزق من جهة، شبه مذبوح، قطع حديدية في رقبته، أسنانه متكسرة، قوائمه متكسرة، جزء من جسده مفتت على الطريق، برك الدماء تتسع وتنحدر مع مياه الأمطار، أصوات الناس وابواق السيارات، سمعت أحدهم يتسأل: كيف تحرر؟ ثم سمعت الآخر يجيبه بأنه قدر الله، كنت استمع، أنظر، لم يكن بإمكاني فعل شيء سوى البقاء واقفاً، سنة 2007 مات الكهل الأبيض، كنت سبب موته “.

انحنى غاضباً، فوضعت يدها على ركبته، كان يبكي بصمت.

لم تتفوه بكلمة، ظلت تحدق إليه وهي تربت على كفه، أي كلمة لن تعني شيئاً، لذا فضلت الصمت ولم ترى بأن الأمر مبالغ فيه، إنه تاريخه الذي يصممه، هذا ما عرفته، الظلال، الأضواء، العتمة وقصص العشق، الحصان رمز لتلك القصص، لكل شيء. عرفت بأنه يعاني ما لم يقله لها مطلقاً، احست تجاهه بحب عميق، تمنت أن يمتلكها بقوة.

” لم تكن تقصد موته “.

” لكنه مات بسببي، لو لم أفك تلك السلاسل لم يكن ليموت، حزني أمر طبيعي، لكنه لم يملك مشاعري، لا زلت اشعر بأنه حي “.

” لا تهتم كثيراً، لا تفكر حوله “.

” لا أفكر، لا أستطيع تصميم صورة، شيء ما يجعل صوري غير مكتملة، لا بد من إنهاء صورة الكهل الأبيض، إنها سلسلة واحدة، واقع واحد، لا أقدر على التفكير السليم “.

عندها تنهد بعمق.

نظر إليها، كانت تتطلع بعينيها الواسعتين العسليتين.

أحياناً تكون الأمور أكثر توتراً.

في ذلك اليوم كان المسن قد ارتدى كامل ملابسه، الأناقة، حذائه المبتل المقدمة، الأجواء الرائعة، شعر بأن الخريف أفضل فصول المدينة، إلهامه يزداد، رغبته في الحياة، حتى إنه شعر بالراحة العميقة، فهو ولأي سبب لم يلقى حتفه في الخريف، هو ليس ورقة في شجرة حتى يسقط في الخريف. ابتسم عند الكورنيش وانطلق ناحية سوق الحوت. اشترى عدة صحف، كتاباً عن تاريخ حروب التشادية وقلماً، عبر الطريق، اخترق الأزقة على مهل. قلب صفحات الصحيفة متطلعاً للزقاق، قرأ عن المعارك التي في احدى المدن الليبية، قلب ثانية فرأى كلمات عن منتدى ثقافي، عن لوحات فنية في تلك اللحظة فكر في الشاب، أعاد طوي الصحيفة وضعها تحت ابطه، ثم راح يمشي على مهل، خرج من ساحة التحرير، قطع الطريق بخطوات وئيدة، عند الشاطئ رأى النوارس تحوم في مكانها، في اللحظة التي أراد أن يطلق صفيراً، أحس بوخز الرصاص، دوي هائل، التفت، وهو يفقد السيطرة على الأوراق تحت ابطه، رأى ملثماً يقترب نازلاً من سيارة، ثم رأى مجموعة منهم تنزل بسرعة، استطاع أن يهمس بكلمات سمعها شاب كان هناك:

” لا، لا “.

دوت عدة طلقات. رأى بعد السماء، ثم سمع صوت ضحكة، وتمنى شيئاً لكن الغياب كان سريعاً، أراد أن يتفوه بكلمات، لكنه لم يستطع.

مات بلا رجعة.

نظر إلى فاطمة بنظرة أشبه بالموت.

” ما بك؟ “.

عندها انهار في نشيج هائل. حضنته مرتبكة وهي تتطلع ثم اخذت تبكي معه. استمر بكائه كنشيج مكتوم طوال نصف ساعة، في زاوية الرف فوقهما مجلدات الصحف العربية منذ الستينيات، تطلعت إلى الفراغ الموحش، ثم أخذ تربت على ظهره.

كانت لحظات انهيار لم يشأ الخوض فيها، تجاهل تساؤلاتها، حتى افترقا تلك الليلية.

دخل غرفته ببطء، كانت أدواته مضأة، قدره، رسمه، لوحاته، جهازه، لم يكن يمتلك شيئاً كثر منها، إنه محض ظل في عالم مضيء، انهار على سرير وراح ينظر للسقف، الظلمة، الوحدة، البرد القارص واللا جدوى.

2013 بنغازي

مقالات ذات علاقة

تاجر الأوهام (4)- قدّاحة الصايع

محمد النعاس

رواية ديجالون – الحلقة 16

المختار الجدال

(الحلاج) المؤله

سعد الأريل

اترك تعليق