المقالة

السحارية…!!

نعيمة الطاهر

السحارية (الصورة: القاص الليبي أحمد يوسف عقيلة)
السحارية (الصورة: القاص الليبي أحمد يوسف عقيلة)

في كثير من الأحيان أجدني في حال بحث عن كل ما هو قديم و “زمني”، فأنا تستهويني المقارنة بين حال قائم ومثله كان، وأجد متعة في استحضار الذكريات وتذكر المواقف، ربما يأتي هذا من باب قناعتي أن من (فات قديمه تاه)!

في وقتنا الحالي للحقائب النسائية (شنطة الكتف) أهميتها البالغة في حياة معظم النساء على اختلاف مستوياتهن الاجتماعية وحالاتهن المادية، فحقيبة اليد هي جراب الحاوي بما تحتويه من مقتنيات، لا أجد المقام مناسبا هنا للحديث عنها، وهي أيضاً بها من الخصوصية ما يجعل فتحها أو العبث بمحتوياتها، من الأمور غير المقبولة من صاحبتها، لذلك تجدها في حضنها وقريبة منها باستمرار، وتحرص على وضعها في مكان يقيها عبث العابثين وفضول المتطفلين.

الحديث عن حقائب اليد الممتلئة بكل الأشياء يأخذني إلى وقت ليس بالبعيد جدًا، عندما كانت (السحارية) تقوم بمهمة الحقيبة الخاصة، ففيها كل ما يخص سيدة المنزل من مقتنيات تتصف بالخصوصية والملكية الخالصة.

مفتاح (السحارية) يتدلى مربوطاً في خيوط ضفائرها، لذلك فمن عير المسموح أن يستعمله غيرها، وحتى وإن تحصل هذا الغير عليه بأية طريقة كانت، فأمر محاولته فتح الصندوق سيكون مفضوحاً، لأنه يكون مصحوبا ً برنة مميزة ذات ” تون ” عال رنان.

صندوق (السحارية) يمتاز بجمال النقوش والألوان الزاهية، كما أنه يستعمل كمقعد للجلوس، هذا إضافة إلى أنه قطعة أثاث أثرية كان لا يخلو منها ” بتات ” العرائس في زمان كان فيه الموروث الشعبي حاضرا ودون منافسة!

تأخذني دهاليز ذاكرتي إلى (دار) جدتي تبرة رحمها الله، في أولاد بن يعقوب، غريان، حيث أصرت على أن تتوسط بيوت أبنائها، فكانت فيها الحاكم بأمره، تعيش فيها كملكة متوجة، يحرص الجميع على تقديم فروض الولاء والطاعة لها حباً ومكرمة، في دار جدتي، أثاثً من نوع خاص، لعل أشهره والمميز فيه، تلك السحارية الجميلة، حيث كانت تضع فيها مقتنياتها، وقد احتلت ركناً مهماً من مساحة الدار، فبانت وقد لاحت عليها زخارفها الزاهية، وهي تجاور مسداتها التي لا تراها إلا منصوبة في كل موسم، لنسج الجرود والعبي.

 كم كنت أشعر بفرح غامر عندما تنولني شرف فك المفتاح من خيوط الصوف الزرقاء التي كانت تتشابك مع خصلات شعرها المنسابة على كتفيها في ضفيرتين غليظتين تتربع بالتناسق معهما القصة الحفاري المجعدة على جبهتها، لتزيد جبينها الوضاء جمالاً..

تعطيني جدتي المفتاح، وأجري به إلى حيث السحارية، فأفتحه وأعاود قفله لأكثر من مرة، مستمتعة بصوت رنينه الأخاذ ذو النغمة الحادة، حتى يأتيني صوت جدتي “تبرة” ناهراً في رفق:

هاتي (شكارة الحلوة) ، أناولها الكيس العامر ب (حلوة الحليب) التي تعودنا أن نأخذها من يدها الكريمة كلما تحلقنا حولها في زيارتنا لها ، وفي ذات الوقت وقبل أن أعاود تدوير المفتاح في قفل الصندوق لأحكم إغلاقه ، أقوم بعملية استكشاف سريعة لمحتوياته فتلوح أمامي علبة (العرضاوي)  و كيس يبدو أنه مخبأً للنقود ، فيما يستقر كيس قطيفة ،  رأيت جدتي ذات مناسبة سعيدة ، تتفقد محتوياته الذهبية ، التي تنوعت بين (السنيبلة) و (الحدايد الرقاق) و معهم (حديدة الكريماتي) و (السخاب) و (خراص الهللة) و (ترليك الفضة ) هناك أيضاً أوراقاً صفراء سألتها عنها مرة فقالت لي هذه (حجج) جدك  .

رن قفل السحارية في مسمعي، فانتبهت إلى أنني أعيش في زمان غير الذي كان، ونظرت في أفق أيامي فلاح لي وجه جدتي تبرة بنت مقيق، وقد ارتسمت عليه ابتسامة كانت أحلى من طعم (حلوة الجليب)!

مقالات ذات علاقة

تكتيكات الصحافة الإلكترونية

رامز رمضان النويصري

أطفال من شمع

سعاد الورفلي

نص تمثل وصوغ استحضار.. في ذكرى رحيل السعداوي.. الشاعر والإنسان

حسام الدين الثني

اترك تعليق