قراءات

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بشير بلاعو

رواية (أفاطم مهلاً) للكاتب مروان كامل المقهور
رواية (أفاطم مهلاً) للكاتب مروان كامل المقهور

كنت أمني النفس أن ما بين يدي هو سرد لما تفيض به أفئدة العاشقين من تباريح الهوى ، و بوح تسره وسائد العذارى عما يفعله بهن سهد الجوى ، و زاد في رجحان كفة هذا التوقع أن ما دفع به إلي ” مروان كامل المقهور ” هو عمله الروائي الأول ، و أنه جاء مع استواء قدميه عند منتصف المسافة بين ضفتي عقده السادس ، و هي ، تماما ، لحظة يستعيد عندها قلب الرجل يقظته ، فينكر أنه جاوز ربيعه العشرين ، و أكثر من ذلك أن المؤلف قد عمد إلى بيت في واحدة من أشهر قصائد الغزل بديوان العرب، و هي معلقة (إمرؤ القيس) ” قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل ” فعنون روايته بشطر من مطلعه (أفاطم مهلا) و البيت كاملا :

أفاطم مهلا هذا التدلل / وإن كنت أزمعت صرمي فأجملي

ربما كان على التمعن أكثر في لوحة الغلاف التي رسمتها فرشاة ” نجلاء الفيتوري “، فلعلي كنت أدركت أن فاتنة ” مروان ” ليست سوى واحدة من أولئك الذين يرمون أنفسهم في البحر، حين يرخي الليل سدوله، ولا أمل لهم في العبور إلا أن تمتد لهم، باللحظة المناسبة، أيادي النجاة.

لقد كانت ” فاطمة ” فعلا تجسيدا حيا للوحة غلافها.. امرأة شابة تمتطي ظهر الموج ولا تعرف السباحة، قبلت أن تحشر نفسها وسط زمرة ” الحراقة ” في مركب ينوء بحمله ويئن محركه، ويشغلها أن تتشبث بطوق النجاة انشغالها بابنها ” الطاهر ” المتشبث هو الآخر، بوالده ” الصادق “، وثلاثتهم بمحاذاة ليبي رابع في مقتبل العمر، وما أن تعين عليهم، والباقين، القفز للماء طلبا لليابس من الشاطئ الإيطالي، حتى جعل المؤلف في عهدة ذاك الشاب مهمة سرد ما صارت إليه حياة “فاطمة” مع بدء أيام الشتات.

الليبيون ليسوا حديثي عهد بعذابات الشتات ، و عناءه ، و عبر كل تاريخهم الحديث ، أجبر الغزاة و المستعمرون الليبيين على ترك الوطن والهجرة ، كما فعلت ذلك أعوام الجدب و الضنك و ضيق ذات اليد و الحيلة ، و اضطرت السياسة ، و تغول الحكام نفرا منهم لذلك أيضا ، و لكن أن تفر أم بابنها ، فتركب به مجاهل البحر و مهالكه جراء ما يعانيه من (تنمر) أصدقاء اللعب ، و رفاق الحي و المدرسة ، فذلك ما لم يقيد ، بتقديري ، حتى الآن ، إلا فيما يرويه مروان المقهور عن ” فاطمة ” و لا ذنب للأم و ولدها إلا أن ” الطاهر ” قد ولد بمتلازمة داون ، فصار بنظر الليبيين ” منغوليا ” ، و منهم من لا يتورع عن التندر بحالته جهرا..

عن طريق منظمة الهجرة تتحصل ” فاطمة ” على بيت في محيط برج بيزا المائل، وعلى جراية شهرية، ثم يلحق ” الصادق ” بزوجته وابنه، بعد أن فك حجزه ” أنجيلو ” المحامي، وزوج ” كاترينا ” التي صارت بمثابة (عرابة) حياة ” فاطمة ” الجديدة، وكانتا قد تعارفتا في مركز حكومي للدعم النفسي تتردد عليه ” فاطمة ” رفقة ” الطاهر ” وتصحب إليه ” كاترينا ” ابنتها ” فورتوناتا ” التي لم تعش طويلا جراء مرض (كاستيلو) النادر.

لم يصعب على ” فاطمة ” الاندماج في مجتمع الشتات ، و حتى مع الحفاظ على ما يحجب خصلات شعرها عن العيون ، لم تتوانى عن قضاء حوائجها متنقلة بدراجة هوائية عبر شوارع مدينة ” بيزا ” و أزقتها ، و لم تقف اللغة حاجزا أمام تواصلها مع المحيط ، فقد أكسبها انتظامها بمعهد للغات ، لسانا إيطاليا ، فيما أعانت المدرسة ، و مناهجها ، و برامجها ، ومدرسوها ، و حتى طلابها ، أعانوا ” الطاهر ” على الاقتراب من الأسوياء ، بل و يبزهم مهارة في السباحة ، مثلا ، و لا يجد حرجا في الوقوف أمام الجموع على المسرح ، مؤديا ، و ربما كان الأهم من كل ذلك ، كما يقول المؤلف  ” بين هؤلاء لا مكان للخجل ، منفتحون ، يتشاركون تفاصيل حياتهم ، الضعف و العجز و مشاكل الآسرة ، لا عيب و لا حرام يدعوها للحياء .. فانطلقت، تكلمت، اكتشفت أن لها لسانا وصوتا، لها رأي وحجة “.

شبت ” فاطمة ” عن الطوق ، لم تعد ” القطوسة المغمضة ” التي لم يكن ” الصادق ” يريدها أن ترى أبعد من طلباته ، لقد وقفت بحزم للطبيب المعالج لأسنان ابنها ، و لم تستنكف أن تنعته ب (البسطاردي) حين شعرت بتطاوله ، و لم تكن أقل صلابة في مواجهة تصابي رب عملها الذي تدبرته لها صديقتها ” كاترينا ” ، و حتى بعد أن التأم شمل العائلة ، لم تتنازل ” فاطمة ” عما رأته من مكتسباتها ، فلم تترك العمل ، بل غامرت بالسفر وحدها لجلب بضاعة من خارج إيطاليا لمحل عملها ، و لم يلبث المؤلف أن أخضعها لامتحان أصعب و أدق ، يوم أن عادت من العمل فوجدت زوجها و قد عاد بابنهما إلى بلده ، فبدا   فؤادها فارغا ممن غامرت ، من أجله ، بركوب الموج و شق البحر ، الموسوم بالغرق و الضياع و لكنها لم تولول ، و لم تعل صوت العويل ، بل إنها سرعان ما استأنفت حياتها ، مقبلة غير مدبرة ، بمجرد أن ظهر في الأفق ذاك الفتى الخلاسي الذي كان قد أقلع برفقتهم من شاطئ  طرابلس ، ليلة أن ” حرقوا ” طلبا لعالم جديد.

عند هذه النقطة، تحديدا، يسهل عليك أن تلحظ انقلابا بينا في تقنية الكتابة، أو أسلوب القص، لدى ” مروان المقهور ” لقد تنازل تماما عن لغة السرد التي كان يلجأ خلالها، أحيانا، لاستعارة أمثال شعبية، ومترادفات لغوية بألسن لهجات عربية من مشارق الضاد ومغاربها، وقد يدندن بنبرة الحزن في صوت الراحل ” أشرف محفوظ “، وبأصوات المكلومين من عاشقي ” الراي “، وذلك لمزيد تأثير النص ورفع وتيرة وقعه. لقد آثر السيد ” المقهور ” الابن، مع تحول من شارك في السرد، إلى شريك فاعل في الحدث، أن يتحول هو الأخر إلى ما يشبه اللغة التقريرية، على نحو ما جاء فيما يمكن وصفه (سي في- C V) ” وضاح ” أصيل منطقة وادي الشاطئ، بوسط جنوب ليبيا، الذي شب بطرابلس وتعلق بها، بعد نزوح عائلته إليها، بعيد ولادته، ثم وهو لاجئ بشواطئ إيطاليا، بعد ما جرى في ليبيا من تحولات وأحداث، إثر ما كان يؤمل أنه ربيعها، فإذا هو جدب ويباس.

لقد جرب المؤلف هذه اللغة قبيل أن تلج الرواية المنعطف الأخير، حين وقف ” أنجيلو ” فيما يشبه صحوة ضمير، متجاوبا مع صدى ما كان يجري في مرافعة ” المحجوب ” بمحكمة لندن، في رائعة ” الطيب صالح ” (موسم الهجرة إلى الشمال)، ولكنه لم يلبث أن عاد يقتفي، مجددا، أثر خط الرحلة كما رسمه عند الانطلاق.

بالنسبة لي، النص قال كلمته حين اتخذت ” فاطمة ” قرارها.. الحرية، إن لم تعدل فهي أثمن من الولد والبلد.

مقالات ذات علاقة

قصائد الشاعر (أحمد قنابة) كما أعدها (الصيد أبوديب)

يونس شعبان الفنادي

اللغة والسؤال والعذوبة المحكية في شاعرية محمد الدنقلي(*)

يونس شعبان الفنادي

المسماري يسرد محنته مع أقبية القذافي

المشرف العام

اترك تعليق