طيوب النص

محاولة لإيقاظ الضمير العربي

(حوار شعري يعرض الجانب القومي في شعر مظفر النواب)

محاولة لإيقاظ الضمير العربي
محاولة لإيقاظ الضمير العربي

(كتبت هذه المقالة عام :1979.. كنت وقتها طالبا بالمرحلة الثانوية، ونشرتها بمجلة البيت: العدد: 15/ 1979.. ثم نشرتها عام: 1983 بصحيفة الجماهيرية.. وكنت قد اعتمدت في إعدادها على ديوان الشاعر: وتريات ليلية.. وبعض الأشرطة لأمسية شعرية للشاعر بالمركز الثقافي ببيروت.. وأمسيتين أخريين بطرابلس وبنغازي.. ولم يكن الشاعر قد أصدر بعد بقية دواوينه المعروفة التي اختتمها بالأعمال الكاملة.. من هنا قد أجد العذر لدى القارئ.. كون هذه المحاولة لم تتسع لكل أشعاره القومية التي ذاع صيتها فيما بعد).

محاولة لإيقاظ الضمير العربي:

كثيرا ما يأسرني الحزن.. فأطرق برأسي واجما.. وأشعر أني أسافر في عالم الغيب وحدي.. وأغرق حتى الثمالة في غيبوبة الحزن العميق.. الذي خلفته الأيام السالفة كتذكار لنا منها.. وأسبح.. أسبح في عالم لا نهاية له ولا حدود.. وفى إحدى رحلاتي الخيالية.. فتحت أمامي كوة على الزمان الغابر الذي صار لنا كالمخدر نتعاطاه.. كي ننسى لبعض الوقت واقعنا المرير.. وتلتها أخرى وأخرى.. وازداد عدد الكوى المطلة على ماضينا التليد.. ومن خلالها تفرستني نظرات يشع منها الغضب.. فشعرت بالوحدة وبدبيب الخوف والوهن في مفاصلي.. وهمت لساعات وساعات.. تلاشت خلالها كل الوجوه الغاضبة من أمامي: (وهبت نسمات أعرف كيف أفيق عليها.. بين الغيبوبة والصحو تماوج وجه فلسطين).

لكني أفقت من غيبوبتي على صوت مزلاج يزاح.. تلاه صرير مفاصل باب عتيق.. فتح الباب.. دخلت.. وسرت.. وسرت: (وصلت إلى باب النخل.. دخلت فأعطتني إحدى النخلات نشيجا عربيا.. فعرفت بأن النخلة تعرفني.. وعرفت بأن النخلة انتظرتني.. لتسأل إن كان الزمن المغبر غيرها).

فبكيت.. بكيت.. وبكى النخل لأن الزمن المغبر غيره: (وأحتشد الفلاحون علي.. وبينهم كان علي وأبو ذر.. وقال علي من أنت..؟ أجبت كنار مطفأة في السهل.. أنا رجل حاربت بجيش مهزوم.. وأخيرا صافح قادتنا الأعداء ونحن نحارب).

فأردف: (هل جئت من وطن.. ؟.. قلت: تعنى حدودا..؟  فأمتنا ليس تسكن إلا الحدودَ).. فقال: (أزيلوا الحدودَ إن كنتم عربا.. فقلت: تنقل أمتنا كلها حين ينقل خط الحدود.. لقد صيرونى حدودا).

 فزفر زفرة متنهد.. وقال بصوت كئيب: هل أنتم عرب..؟  فأطرقت برأسي خجلا.. وقلت : (حمدانيون.. بويهيون.. سلاجقة.. ومماليك).. فقال: (ألا يا أعاريب.. يا أمة كل شبر لها حاكم.. أين كتاب الله.. ؟) فاغرورقت عيناى بالدموع.. وأجبت: (مازال كتاب الله يعلق بالرمح العربي).

فقال غاضبا: ً(تمرد.. فهذه الشراذم.. يا مبتلى بالشراذم.. إما مساومة.. وإما على وعيها نادمة.. تمرد فإن السكاكين سيان حامية الحد.. أو ناعمة).. فقلت: (إننا أمة نائمة.. إننا أمة حملت ربها عبئها.. واستشاطت لأصنامها صاخبة)..  فقال: (وطن مجزأ والتجزأ فيه جزاء).. فقلت: (فأين قريش تعيد لنا الحجر الوحدوى..؟ فنحن بدون الحجارة.. ليس تقوم لنا قائمة).. فقال: (هل عرب أنتم.. وأراكم تمتهنون الليل.. على أرصفة الطرقات الموبوءة أيام الشدة.. ؟)

فسكت قليلا.. ثم أجبت: (قتلتنا الردة يا مولاي.. كما قتلتك بجرح في الغرة.. قتلتنا الردة.. قتلتنا أن الواحد منا.. يحمل في الداخل ضده).

 فقال.. أصرخ فيكم: (أصرخ أين شهامتكم.. إن كنتم عرباً.. بشراً..  حيوانات ..؟).. فأجبت: (أنبئك علياً.. أنا مازلنا نتوضأ بالذل.. ونمسح بالخرقة حد السيف.. مازلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف.. لو جئت اليوم لحاربك الداعون إليك.. وسموك شيوعية).. فقال: (ما عاد في الأرض نزل.. أسميه بعد الهزيمة بيتي).. فقلت: (إن العدو على فرسخين من العاصمة).. فقال: (كلكم واحدا.. واحدا جبناء)..  فخجلت.. خجلت.. وقلت متحججا: (احتربنا.. فطارت رؤوس.. وطارت أكف.. وأخشى تطير بنا العاصمة).. قال: (أذكركم أن بين البيوت التي تسكنون.. وبين جيوش العدو.. لا فرسخين ولا يحزنون).. فقلت: (إننا أمة نائمة).. فقال: (إننــي أعجب مما أرى من سكينة.. وأعجب من بقر..  وضعوا كل أخلاقهم في البنوك رهينة).

فأطرقت برأسي خجلا.. ثم قلت مرددا بصوت خفي: (يا وطني يا وطني.. وكأنك غربة.. يا بلدا يتناهشها الفرس.. ويجلس فوق تنفسها الوالي العثماني وغلمان الروم.. وتحلم “الجيتات” الصهيونية بالعقـد التوراتية فيها.. يا بلدي ورماح بنى مازن.. قادرة أن تفتك فينـا.. والكل إذا ركب الكرسي يكشر في الناس كعنترة).. وبكيت.. بكيت: (وحط علي رأسي في حجريه.. وقال حمل.. فتحملت).

ومرت لحظة حزن قاتمة.. وتماوج وجه فلسطين: (وعرف المفتاح الكامن في القفل.. وما يربط بالقفل الكامن بالمفتاح.. فباحت كل الأشياء.. وتضرج قلبي بالأنباء: فقلت: أنبيك.. عليا.. أنبيك.. تلوث وجه العنف.. وضج التاريخ دعاوى فارغة).. فقال: (قتر ريقك لليل.. فلابد لهذا الليل دليل.. يعرف درب الآبار.. ويقنع بالحدو الناقة الصحراء).

فقلت: (لن يبقى عربي واحد.. إن بقيت حالتنا هذى الحالة).. فقال: (اللهم أبتدئ التخريب الآن.. فإن خرابا بالحق بناء بالحق).. فقلت: نريد بناءً بالحق.. فلماذا الخراب إذن.. ؟ فقال: (هذا زمان لا يشبه إلا القرن الرابع.. أو ما سمي كفرا.. زندقة.. أو أدرج بالفتن).. فقلت: (سنصبح نحن يهود التاريخ.. ونعوي في الصحراء بلا مأوى).. فقال: (لن تتلقح تلك الأرض بغير اللغة العربية.. يا أمراء الغزو فموتوا.. سيكون خرابا.. سيكون خرابا.. هذه الأمة لابد لها أن تأخذ درسا في التخريب).

ونهض واستأذن في الذهاب.. فقلت: إلى أين الهجرة..؟ فقال: (لم أكتشف على البر.. غير الشتائم والمال والاضطراب).. ثم أدار لي ظهره.. وغادر وهو يردد: (وطن مجزأ والتجزأ فيه جزاء).. فصرخت: (أيا سيدي متى سأراك.. لكنه لم يجبني.. واختفى كالحجاب).. وقد سمعته من بعيد يقول: (استيقظوا.. استيقظوا.. استيقظوا.. أيها الناس قوموا من القبر.. أو أيها الناس موتوا صحيحا).. فأفقت من غيبوبتي: (أيقظني ريح الشباك على وطني).. وكنت في مكاني.. جريدة الصباح في يدي.. والقهوة من أمامي لم تمس.. كعادتي كنت: (مثــل الفرزدق أجلس في ضلــع مقهــى.. أحصى البطالة والخوف.. والمخبرين.. بما فيهم باعة اليانصيب).


المقاطع المائلة مقاطع شعرية للشاعر الراحل مظفر النواب.

مقالات ذات علاقة

صدور الرواية الثانية للكاتب السوري عواد جاسم الجدي

المشرف العام

خيانة

أنيس فوزي

ماذا لو ؟!!

مقبولة ارقيق

اترك تعليق