إبراهيم الهنقاري
من القلائل الذين يستحقون فعلا أن يحملوا لقب ”الأستاذ“… شخصية أدبية نادرة…
ولد “الأستاذ” في المهجر في أرض الكنانة مصر المحروسة عام 1930. فهو أيضا من جيل الثلاثينات. ذلك الجيل الليبي الذي قدر له الله سبحانه وتعالى أن يكون جيلا متميزا. واتاه الله ما اتاه من العلم والحكمة والفهم وصدق الحديث وشظف العيش والمعاناة في السجون كما في الحياة.!
ولد وعاش وتعلم في مصر حتى حصوله على ليسانس الآداب من كلية الآداب جامعة القاهرة. هاجرت اسرته الى مصر خلال سنوات الاحتلال الايطالي الفاشي لوطنه العزيز ليبيا. ولم يعد الى هذا الوطن إلا عام 1957 أي بعد تخرجه من الجامعة بعامين.
بدأ نبوغه الفكري والادبي والصحفي في مصر. وعندما عاد الى أرض الوطن كان جاهزا لأداء دوره الفكري والثقافي والصحفي في بلده المملكة الليبية المتحدة التي لم يكن يحمل لقادتها في ذلك الوقت كثيرا ولا قليلا من الود.! كما لو أنه ولد متمردا وكتب الله له أن يقضي أيامه ولياليه في هذه الدنيا الفانية متمردا.!! ثم قضى نحبه متمردا على كل شيء.!! كان متمردا في كل كتبه. متمردا في كل مقالاته الصحفية. متمردا في كل قصصه. متمردا حتى في أحاديثه العفوية مع أصدقائه.!
لم يجد ضالته كلها في ليبيا. وجد القليل منها في ليبيا. ووجد بعضها في مصر. وبعضها في تونس. وبعضها في عقله الباطن حيث كان يحدث نفسه سرا ربما عن أحلامه وأمنياته المستحيلة.!
عرفت “الاستاذ” والتقيته في مناسبات ثقافية واجتماعية خلال السنوات التي قضاها داخل الوطن وكنت ومازلت أحمل له ما يستحقه من الاحترام والتقدير لتضحياته ولمساهماته في إثراء المكتبة الليبية بالعديد من المؤلفات التي حملت أفكاره المتمردة الى الناس.
كان رغم معارضته المعروفة للنظام الملكي في ليبيا قبل الانقلاب العسكري المشبوه في أيلول الأسود عام 1969، كان رغم ذلك من ضحايا ذلك النظام العسكري المجنون حيث تم اعتقاله والزج به في السجن عقب ما عرف بخطاب زوارة يوم 15 أبريل 1973 وإعلان “ثورة الجهل والجاهلية” التي سُميت زورا وبهتانا “بالثورة الثقافية” تلك الثورة المجنونة التي اعتقلت المثقفين وأهانتهم وزجت بهم في غياهب السجون وعرضتهم للضرب والتعذيب على أيدي الجهلة من أعوان ثورة الجهل والجاهلية. والتي قامت بإلغاء وتعطيل كل القوانين وأحرقت المكتبات وحطمت الآلات الموسيقية ثم أطلقت على تلك الجرائم البشعة والشنيعة اسما مزورا هو “الثورة الثقافية”.!! وما أبعد الثقافة عن الجريمة.!!
وبعد جلسات “الفلقة” والتعذيب عرض على “الاستاذ” منصبا وزاريا هو وزير الاعلام فيما سمي “باتحاد الجمهوريات العربية” الذي جمع على الورق فقط بين ثلاث دول عربية هي مصر وسوريا وليبيا. فقد كانت حقا دولة من الورق لم تلبث أن ماتت واختفت عن الانظار وتم تمزيقها والقاء بقاياها في سلة المهملات دون أن يحزن على موتها أحد.!!
لم يقبل “الاستاذ” المتمرد بالطبع ذلك المنصب الصوري. وقال إنه لا يؤمن بالإعلام الرسمي الذي وصفه بإنه “أبواق تخرج من أفواه السلطة”.!! ولم يكن بوسع ذلك المتمرد إلا أن يقول ذلك.!!
ثم إنه كان قد الى على نفسه ألا يعود ثانية إلى مسقط رأسه مصر المحروسة وبقي في ليبيا يقضي وقته بين ما تبقى من المكتبات والمراكز الثقافية وبين مقهى “الخضراء” وسط العاصمة بين أصدقائه وزملائه.
كتب المقالة وكتب القصة والرواية. ترك لنا أربعة عشر كتابا تستطيع أن تقرأ قصته هو من عناوينها: “عندما تضج الأعماق“، “طاحونة الشيء المعتاد“، “الفرصة والقناص“، “العيد في الأرض“، “الزيت والتمر“، “أشياء بسيطة“، “رحلة الاقتراب“، “النموذج الثوري في الادب والفن“،” حياتهم”، “قطعة من الخبز“، “حروف الرماد“، “كلمات إلى وطني“، “معنى الكيان“، “الوقدات”.
سيبقى عبد الله القويري قامة من قامات الادب الليبي الحديث. وسيظل هو الأديب المتمرد في كتاب الادب الليبي.
كان يوم 19 يناير 1992 هو يوم الرحيل. رحيل الكاتب المتمرد الاستاذ عبد الله القويري عن دنيانا الفانية. وبقيت لدينا أعماله وخواطره المتمردة. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وعوض الوطن فيه خيرا.