استطلاع / مهنّد شريفة
منذ أن اهتدى الإنسان لسبيل الكلمة وأضاء جدران كهفه المظلم بالرسوم وأشكال الأبجدية الأولى، بات للشعر دور حيّ في التفاعل مع مجريات ما يحدث وصار الشاعر يلتقط ما تيسّر له كعُصفور يبني عُشّه لصغاره،فيُشيِّد بدوره المعمار الداخلي للقصيدة ويؤثث فراغها ويُحصّن اتساعها على صيرورة الكون ومِداده، متسلحًا في ذلك بملكاته وما يملكه من أدوات فكما يقول الشاعر محمود درويش (لا نصيحة في الشعر لكنها الموهبة) وهذا ما يقودنا إلى التفكير في طرح غاية في الأهمية هل الموهبة أداة كافية لنجاح تجربة الشاعر؟ فما نرصده في ضوء تجارب الشعراء الليبيين يجعلنا نلحظ غياب شبه تام سواء للبُنية الرؤيوية في النصّ الشعري للشاعر/ة الليبي/ة لنقف إزاء تحايل لفظي ورصف منمق للكلمات المبهمة تارة والمُربكة تارة أخرى ولا نريد في هذا الصدد أن نزجّ بموهبة الشاعر الليبي إلى قفص الإتهام لنتهمه بالخواء ربما الأمر لم يصل بعد نحو هذا الحد لكن جمود قصيدة الشاعر الليبي بمثابة دورانها في حلقة مفرغة، قد يُتهم المبدع الليبي عمومًا لاسيّما الجيل الصاعد بأن قراءاته هزيلة ولعل ذلك يُعزى لعوامل إجتماعية وسياسية وإقتصادية حدتّ من هامش المغامرة لديه، فالشعر ليس وسيلة للتحرر بقدر ماهو مساحة تُعبّر عن التحرر والشاعر إذا لم تُحرره المُغامرة وتُغذيه التجربة لن تفت القصيدة في عضد فكره ونظرته للأمور من حوله، وفي تاريخ مسيرة الشعر الليبي المعاصر تتجلى لنا بعض النماذج التي ساهمت التجربة الحيّة والرؤية المعرفية في بث مشروعهم النصيِّ شيئ من الزخم الذي سيجعلهم مقروئين بصورة مطردة سواء خلف قضبان السجن كمحمد الشلطامي أو وراء فُوِّهة البندقية كمفتاح العمَّاري، وهذين النموذجين يجيئان كأبرز مثالين راهنا على تحدي تجاوز اللغة كغاية قصوى إلى ما هو أبعد يسكنهما ويكاد يُمزِّق أحشائهما فالشاعر الأمريكي “تشارلز بوكوفسكي” يقول(إذا لم تخرج منك دون سؤال،من قلبك ومن عقلك ومن فمك ومن أحشائك فلا تفعلها) وهنا يعني الكتابة التي ينبغي أن توظف اللغة كأداة فنية تُجسّر الهوة بينها وبين الفكرة لا أن تختنق الفكرة باللغة فيُميَّع محتوى العمل.
وفي هذا الصدد لابد من السؤال هل التجربة تنقص الشاعر الليبي ؟ بأي وجه يتعاطى الشاعر الليبي مع ثنائية اللغة/ الفكرة؟ متى يُدرك الشاعر الليبي أن النص الشعري أكبر من مجرد مفردات قاموسية؟ وهل تغيب الرؤية المعرفية حقًا عن النصّ الشعري الليبي ؟ سنحاول عبر هذا الإستطلاع الوقوف على عدة أراء بالخصوص.
عبد الحفيظ العابد: شاعر وروائي:التجارب الشعرية الليبية لا ينقصها الوعي
يرفض العابد هنا التعميم حسب تقديره التجارب الشعرية متفاوتة، لكنّ الجادة منها لا تنقصها التجربة إذا كان المقصود بالتجربة مواكبة التحوّلات الشعرية الكبرى والانفتاح على ما يكتبه الآخر، ومن ثمّ محاولة تخطّيه عبر كتابة نص منحاز للذات الكتابة التي تخضع النصوص السابقة لسلطة النص الحالّ.
ويتابع : لم تعد ثنائية اللغة والفكرة مطروحة، فاللغة لم تعد وعاء يحمل أفكاراً كما كان ينظر إليها من قبل، والشاعر كما يقول (جان كوهن): “بقوله لا بتفكيره وإحساسه، إنه خالق كلمات وليس خالق أفكار، وترجع عبقريّته كلّها إلى الإبداع اللغوي”، فالخطاب الشعري ليس خطاباً فكريّاً وإن تضمّن أفكاراً، إنه خطاب جمالي، والأفكار لا يمكن النظر إليها معزولة عن بناها اللغوية وسياقاتها النصيّة.
كما يعتقد العابد أن الشاعر الليبي يدرك، كثير من التجارب الشعرية الليبيّة لا ينقصها الوعي الشعري، ومن ثمّ فإن لغتهم تكفّ عن كونها معطى اجتماعيّاً يشترك فيه جميع المكلّمين، إنها لغة فردية منحازة للشاعر ومتهمة بالتواطؤ معه، لغة مغمّسة بدواة الذات ومنكتبة بحبرها، يقول (محمد بنّيس): “في الذات لا في القواميس تتجمهر اللغة، تتعلّم كيف تنهض، تعاود التكوين والتأسيس”، فاللغة الشعرية لا تتجه إلى الخارج، بل إلى الداخل نحو بواطن الذات، هناك حيث يهيمن الكلام بوصفه معطى فردياً على اللغة.
وعن حاجة النص للرؤية المعرفية يردف العابد: أن يقدّم النص رؤية شعرية، صحيح أنّ تعدّد القراءات يوصل إلى الكتابة بشكل عمودي، لكنّ الخطاب الشعري ليس خطاباً معرفيّاً بالمعنى الدقيق، إنه ينفتح على المعارف ليقدّم رؤيته الخاصة، في اعتقادي لا ينقص الشعري الليبي هذا الانفتاح على المعارف، وإنما ينقص النقد الذي ظلّ في كثير من الأحيان حبيس الضوابط البلاغيّة القديمة، كثير من النصوص لم تجد قارئاً يعيد إنتاجها بوصفه شريكاً في النص، لكنها تبقى منذورة لقراءات ممكنة أنثربولوجيّة وميثولوجيّة وظاهراتيّة وغيرها.
قيس خالد : كاتب ومهتم :إذا كان النص الشعري يخضع للتجربة فسوف يتحول إلى روشيتة صيدلية لا إلى عمل فني.
الكاتب قيس خالد لا يرى بأن ٱن التجربة تنقص من شأن الشاعر الليبي أو أي شاعر آخر، ففي تصوره التجربة موضوع يخص الحياة المادية ولا يخص الفن، التجربة مفردة علمية تعني إنتاج الشيء من خلال تجريب أو إتباع خطوات محددة ومدروسة تتحمل الخطٱ والصواب وإذا كان النص الشعري يخضع لهذه التقنية فسوف يتحول إلى روشيتة صيدلية لا إلى عمل فني، في الشعر في الفن عمومًا ليس هناك خطأ و صواب مثل علوم الرياضيات يعني ذلك لا حاجة لنا بالتجربة، الشاعر يحتاج إلى موهبة كبيرة وثقافة كبيرة وألم كبير لكي ينتج نصًا جيدًا، وكذلك يحتاج إلى الحظ أو الصدفة لكي يحب الناس كلماته كما قد يحبون لون عينيه أو طول قامته أو نبرة صوته أو أي شيء منحته له الطبيعة بالصدفة…
ويتابع: وفي المقابل لست متأكدًا من هذه ثنائية اللغة/الفكرة، ففي أعتقادي أن الحد بين اللغة والفكرة ضيق جدًا بل يكاد يكون منعدمًا، الحكاية تتعلق بنموذج المقارنة ،لكي نؤسس مفردة أو مفهوم أو فكرة، نحتاج بشكل أساسي لمهارة إجراء المقارنات، فمثلا نحن لا نعرف وعبر التاريخ أنه هناك إنسان أو شعب أو حتى نبي مارس التفكير بدون لغة، أو كتب لغة بدون تفكير، الفكرة حدودها اللغة واللغة حدودها الفكرة، إذن هنا نموذج المقارنة غير موجود، وهذا معناه أن الفكر واللغة شيء واحد ملتبس إلى حد لا يمكن فيه رؤية خطوط التداخل بينهما، وهذا معناه أن ثنائية اللغة والفكرة مفهوم تخيلي غير موجود في تصوري…
كما أقول إن من أهم شروط إنتاج نص جيد هي الموهبة والثقافة، متى ما كان الشاعر موهوبا ومثقفا سوف ينتج نصا كبيرا، أما ادراك الشاعر بأن النص أكبر من المفردة هذا شأن جانبي يتعلق بمعرفة جانبية لا تؤثر على مهارات كتابة النص، مثل ادراك السائق أن سيارته ليست مجرد عربة تنقله من مكان إلى آخر بل هي إختراع حضاري عظيم، ولكن انعدام الإدراك الجانبي هنا لا يمنع السائق من امتلاك مهارات القيادة المحترفة، فضلا على كل هذا مازلت أعتقد أن النص الشعري لا يحتوي مفردات اطلاقا بل يحتوي صورا معرفية كاملة، اللغة كلها عبارة عن صورة معرفية تامة، أما كلمة مفردة فهي تستخدم بشكل فني محدود ولا يجب أن يستخدمها إلا اخصائيين اللغة بهدف تشريح اللغة بشكل فني أكاديمي لا أكثر ولا أقل، مثل الذرة في علوم المادة، العالم كله ليس فيه ذرة واحدة بشكل مستقل بل فيه مادة، والذرة وخصائصها لا أهمية لها في الشكل العام تماما الا بالنسبة للعلماء المختصين فهم يدرسون الذرة بهدف الأرشفة وتأريخ المعرفة وشرح الأسباب
وعلى الرغم من أنه غير لائق وغير ممكن تعريف ظاهرة كتابة الشعر، لكن هذا الظاهرة عرفت عبر تاريخها أنها مجرد فن للتعبير عن “الهم الشخصي” القارىء يقرأ النص الشعري كما لو أنه يقرأ سيرة شخصية خاصة جدا لإنسان آخر، وفي هذه الحالة من “التواجد الشخصي” في النص الشعري تضيق مساحة العرض المعرفي في هذا النص، المعرفة هي فكرة الفرد عن العالم أما الشعر فهو فكرة الفرد عن نفسه، وفي هذه الحالة أيضا يصبح من الصعب جدا أن يقوم النص الشعري برفع المستوى المعرفي للقراء، فضلا على ذلك يساهم تواضع المستوى الفكري والثقافي لكثير من الشعراء في تعقيد موضوع العرض الفكري في النصوص الشعرية، ولكن وبرغم ذلك سوف تجد احيانا بعض الشعراء وبعض النصوص تتوفر فيها عروض فكرية ومعرفة جيدة، الأمر كله في أعتقادي مختص بتاريخ ظاهرة الشعر برمتها وفي انها ليس درسا في العالم بل درسا في النفس.
جلنار أحمد : كاتبة وقاصة: الرؤية المعرفية يفتقدها النص والمتلقي أيضًا
تجد جلنار أحمد بأن اكتشاف التجربة هو ما ينقص الشاعر الليبي، أو احترام التجربة وتقديسها لأن كل ما يحدث في حياتنا ليس عبثا، قد يعلق بروحك تفصيل صغير لنص عظيم، كوصف ضرس لابتسامة شخص ما، أو لعبة كانت، أو زمن لم يأت بعد.
وعن ثنائية اللغة والفكر تراها بسيطة/معقدة بآن، فلا يمكن حسب وجهة نظرها فالحديث فيه لا يمكن أن يكون محايدًا، والفكرة لا يمكن لها أن تتجلى إلا من خلال اللغة، قد تُلِح عليك فكرة فتنتقي لها لغة مناسبة، وقد تلح عليك لغة لتختار لها فكرة تلبسها إياها، أما واقع الشعر في ليبيا فيظهر أنه يحاول أن يُخفي أفكاره تحت ستار اللغة، ليجعل منها غاية.
وأكّدت مرة أخرى، أن الحديث فيم يخص اللغة/الفكرة لا يمكن أن يكون محايدًا، فهذا السؤال يجيب عن سابقه، ويتحيز للفكرة، لا أرى أن النص الشعري فكرة ولا أراه لغة أيضًا، المشكلة تكمن في تحديد ماهية الشعر، الذي سيفقد نفسه ويتلاشى إذا تم تعريفه، أو معرفته… فالشعر أكبر من كل ذلك كما ذكرت، يُحوِّر نفسه باستمرار يفاجئنا، ويسلبنا أرواحنا.
وتابعت : الرؤية المعرفية ربما يفتقدها النص والمتلقي أيضًا لذلك لن يكون هذا الافتقار عائقًا، فغياب الرؤية المعرفية يكمن في سببين أولهما: عدم توفرها، والثاني: إخفاؤها، فإذا كان السبب الأول فهذا طبيعي ومبشر لأن الشاعر والمتلقي سيصلان لحظة ما إلى هذه الرؤية حتمًا، وأما إذا كان سبب الافتقار هو إخفاؤها فهنا تكمن أزمة الشعر والشاعر والمتلقي، وختمت بأن الشاعر الليبي لديه تجربته في المغامرة والإكتشاف لكنّه لعوامل مختلفة يتحفظ عن ممارستها في سياقات نصه الإبداعي.
د. علي محمد رحومة: شاعر وباحث:الشاعر المبدع الأصيل يرى أن تجربته أكبر من أن توضع في قالب محدد
الدكتور رحومة يعتبر بأن تجربة الشاعر ، هي رصيده الشعري، أو المراحل المختلفة التي تطور فيها إنتاجه، خصوصا بما يشمل تطوره اللغوي والمعرفي، واكتشافه لصوته الخاص؛ إلخ.. فلا شك أن كل ذلك يرتبط وثيقا بخبرة المعاناه الشخصية للشاعر، والقضايا التي تمثلتها نصوصه الشعرية، بصدق الإبداع وأصالته.. وهنا، يتباين الشعراء الليبيون كغيرهم من الشعراء.. فمنهم من يقبض على لهيب الكلمة الحية التي تجسد روح تجربته وخصوصيته؛ ومنهم من هو مجرد صدى لقراءاته، بصورة أو بأخرى… ومنهم، للأسف، ليس إلا نسخة مشوهة لشاعر آخر، يقتنص اللحظات الهاربة وفيما يتعلق بالفكرة بالفكرة فهي قضية معرفية شائكة!.. ولعلها انبثقت ودُرست في أدبيات اللغويات والنقد الأدبي في الدراسات الغربية، منذ القرن التاسع عشر الميلادي.. خصوصا فيما يعرف بنظرية “النسبية اللغوية” التي تناولت تأثير اللغة في التفكير البشري، وتغير النظرة إلى العالم والحياة برمتها.
وينفي وفق ما يرى على وجه اليقين ثنائية اللغة/الفكرة!.. بل يؤكد أن هناك (الشاعر) فقط… فالشاعر المبدع الأصيل يرى أن تجربته أكبر من أن توضع في قالب محدد!.. كلمة او لفظ أو صوت أو إيماءة وإشارة، أو حتى صورة جامدة… الخ. بل هي كل هذا وأكبر منه بكثير… لذلك، لا حياة لشاعر لا يتجاوز نفسه في لغته وفكرته (إبداعه). ولا حياة للغة ساكنة، فذلك يعني الموت. إنني أعني أن الإبداع الشعري هو معرفة مخصوصة بلغتها المبتكرة، لغة السمو والعلو.. لغة الحالة الشعرية التي تقال فيما بين الحياة والموت، أي ما بعد الحياة الروتينية التي نعيشها. والتي لا يشعر برتابتها إلا المبدعون!.. ومن هنا تحديدا، تأتي ضرورة الشعر، ضرورة التجاوز والارتقاء.. معنى هذا أن الشاعر ربما يتخطى أسوار اللغة المكتوبة والمنطوقة بحالته الفريدة (فوق-إنسانية)، إن صح التعبير؛ تلك التي يحياها الشاعر بكل متناقضاتها، ولا يفلح في نقلها إلى المتلقي إلا حين يبدع لغته الخاصة بصوته المتفرد الذي يمتح أفكارا وإيحاءات متوالدة، وينضح أنوارا تتلألأ معرفةً واكتشافا مبهرا، يحدث تلك النمنمة والرعشة المفاجئة حتى نتلقى النص الشعري المبدع… لا حد لانتشاره في وجدان المتلقي.. ذلك الذي يتجاوز به منظومة الزمكان… بإمكانك الآن، أن ترى الوجه الذي يتعاطى به الشاعر الليبي مع ثنائية اللغة/الفكرة!.. وأن تميز بين شاعر وآخر، أو نص وآخر… وليس أمامك إلا أن تتساءل، هل للشاعر الليبي لغته الخاصة، صوته، وأسلوبه المتميز حقا.. أم أنه يتقمص وجها آخر، قناعا! مثل أقنعة المهرجين والرعشة المفاجئة حين نتلقى النص الشعري المبدع.
فحين يكتشف المرء حقا أنه شاعر، وليس متشاعرا.. سيرفض الجاهز، والسائد، والمكرور… فذلك كله ليس هو… ولا يقوله هو إلا هو.. فأين هو؟ ومن هو؟ عليك أن تكون شاعرك الذي ينجب الحياة، ويضخها قلبك في أوردة الآخرين…. الشاعر الليبي ليس استثناء، عليه أن يدرك ذلك جيدا….وهو الأمر الذي نلاحظه جليا حين نقرأ بعض شعرائنا المبدعين، وكثيرا من المتشاعرين
وقد يفتح سؤال الرؤية المعرفية للنص الشعري الشهية لإجابة مسهبة على نحو ما، فهو يرتبط بالمنظور الفلسفي في هذا الشأن.. ولكن أحاول الاختصار، وبدون الخوض في ملابسات أسئلة المعرفة والوجود والإبداع، خصوصا الاختلاف أو الجدل الفكري القائم بين نظريتي الوجود والمعرفة.. يمكننا، مبدئيا، القول من الناحية العملية، أنه لا فرق حقيقةً، بين الوجود والمعرفة.. فهما يكملان بعضهما البعض في منظور الأنا والعالم، الذات والموضوع.. ويعتبران وجهين لعملة واحدة، كما يقولون.
ولو بدأنا، بالمعطى الديكارتي: أشك، أو أفكر، إذن أنا موجود؛ فهو يلتقي من طريق أخرى، بـ “أعرف” أو “أشعر” إذن أنا موجود. وذلك، يعني تحديدا التجرية (وقد تكون هنا الحالة أو الممارسة الإبداعية الشعرية).. والتجربة، لا شك أنها وسيلة ملموسة للمعرفة. مثلما أن العقل أيضا هو أداة للمعرفة، ويظل هو الحكم.. كما تظل التجربة هي الدليل والبرهان، سلبا أو إيجابا … ومن ثم، فالتجربة حُجةٌ أقرب لمعرفة الوجود من أي شيء آخر.. بمعنى: أمارس، وأحيا.. أي أتواصل، وأتطوّر.. وأرتقي.. الخ… كل هذا بمعنىً واحد، حين نريد “الوجود”، بمختلف مراتبه ومستوياته الحياتية بالنسبة للإنسان…
لذا، يأتي الشعر موضوعا معرفيا، فضلا عن كونه حالة وجود!.. أي أنه ذات وموضوع في آن… وإذا ما اعتبرنا بوجود الشعر الليبي، كإبداع، له خصوصيته وتفرده في ميزان الشعر العربي أو الإقليمي، أو العالمي، مثلا؛ على اختلاف تجارب المبدعين الليبيين – الشعراء الذين يمكن أن يمثلوا هذه الخصوصية – فلا بد إذن، أن يصاحب هذا الشعر معرفة مخصوصة، بصورة ما.. معرفة كامنة، ذات ملامح خاصة بالمجتمع الليبي، يمكن استنطاقها واستظهارها في تجربة الشاعر الليبي.
غير أنه ليس من مهمة الشاعر، كمنتج للنص الشعري، أن يتحول إلى منتِج للمعرفة بصورة مباشرة… ذلك أن الإنتاج الإبداعي شيء، والإنتاج المعرفي شيء آخر.. ولكنهما في نفس الوقت يلتقيان في كونهما يجسدان قطبيْ كينونة الشاعر، وجوداً ومعرفةً… ينطلق الإنتاج المعرفي من آلية تفكير محددة، ونسق قيمي معين، والذي يمكن أن نطلق عليه أيضا إلى حد ما: فلسفة أو نظرية معينة، أو ربما مدرسة بخصائصها المحددة، حين تتحول إلى ممارسة فاعلة، وغير ذلك.. على الاختلاف النسبي بين هذه المعاني بطبيعتها، ولكنها جميعا تقترب من المنظومة الفكرية المقصودة في هذا الصدد، لضرورة إنتاج المعرفة. وهي من أهم الأدوات الرئيسية لمنتِج المعرفة… ولعل هنا يأتي دور الناقد الذي لا يُعوَّض… دور الدارس، والباحث المدقق، المستكشف، والمتذوق، المختص في دراسة النص الشعري (الذي ينطلق أساسا من التجربة الشخصية والمعاناة الخاصة للشاعر)، واستكناه بواطنه، ومكنوناته، لغته، وجمالياته، ومعلوماته الفنية المتنوعة، وأسلوبه العام والخاص، الخ..
إننا بهذا كله، نحتاج إلى الإبداع الليبي الأصيل الذي يتناول قضايا المجتمع الليبي المخصوص بقيمه وآليات تفكيره وسلوكه، وتنوع موروثه الثقافي، وقضاياه الحياتية، آماله وطموحاته، ومدى تناغمه مع القواسم الإنسانية المشتركة، ومدى تلاؤمه مع معطيات العصر، بفرادة وخصوصية، الخ… هل يمكن، إذن، أن تكون لنا رؤية متكاملة، فكرا وفلسفة وإبداعا؟.. أيمكننا بناء ذلك في حركتنا الثقافية المعاصرة؟.. إن هذا، فعلا ما نفتقر إليه. وذلك، بسبب ابتعاد النقد الموضوعي المتواصل، والدراسات العلمية الجادة عن الإبداع الشعري الليبي، والتي يجب أن ترصد تطوره، وتبرز جمالياته، وتؤطر أنساقه، وتستجلي معرفته وكوامن معطياته الفكرية والفنية المتنوعة -على أهمية القراءات الانطباعية العابرة والمتابعات الصحفية السريعة أو (الفيسبوكية) الأسرع، من حيث الاحتفاء والتشجيع… الخلاصة، تبقى المعرفة من خلال “الشعرية”، لا يحققها إلا الإبداع الأصيل شعرا ونقدا…
وينوه في ختام مشاركته: لعله، يجدر في هذا السياق، أن ننوه بأن هذا تحديدا ما كنا ولم نزل، ننادي به مع بعض زملائنا الآخرين، بأن يكون هناك جسم ثقافي ومنبر خاص يجمع الشعراء الليبيين، وينهل من مختلف التجارب ويرصد تطورها الإبداعي الجمالي والفكري المعرفي.. سواء في محاولتنا الأولى فيما عرف بـ “نادي الشعراء” في التسعينيات الماضية، والذي للأسف حورب في مهده، أو “جمعية شعر وفكر” في 2015، والتي هي الأخرى تعثرت، ولم تنطلق بعد… أو أخيرا في 2017، “مؤسسة التكامل الإبداعي”، والتي قامت ببعض الأنشطة الثقافية الشعرية والفكرية والعلمية خلال 2017-2018، والتي نأمل أن تستأنف نشاطها، وتتواصل في عطائها، إلى جانب أجسام ثقافية أخرى مهمة في الساحة الثقافية الليبية الراهنة.
الكيلاني عون : شاعر ورسام تشكيلي:تجربة الشاعر سراج الدين الورفلي مثال ناضج لمحاولة تركيب صوت حقيقي وواحد لثنائية اللغة والفكرة
من جهته يؤكد الشاعر الكيلاني عون أن التجربة الشعرية تبدو إطاراً لعديد التمثلات الإنجازية لجدوى القول، شبكة تعاضد لغوي ونفسي وترويض لدلالات المعاني بما يمتلكه كل شاعر من وعي بالمقروء المتكلَّم به / عنه. والشاعر الليبي كغيره من شعراء هذا المتاه الإبلاغي مسكون بتفاصيل ممكناته وحدود معارفه وخلاصات توصيفة للمتخيَّل الإنجازي، كغيره أيضاً يدهن العالم بطلاء ضروري لزينة متخيَّلة وتلك حدودها المحتملة، كما يتصور بأن اللغة / الفكرة ثنائية مرتبكة بعديد التفسيرات، مرتبكة وقديمة، يرى هنري برغسون :” إننا نملك أفكاراً أكثر مما نملك أصواتا”.
ويرى هاملتون إن “الألفاظ حصون المعاني” هكذا تختلف العلاقة بين اللغة والفكر وتتلوَّن بـ: (اتصال / انفصال).. هذر تاريخي.
تستلزم إجابة هذا الجزء قراءة منصفة ومتأنية لذا سأكتفي بالقول إنه هناك بعض التجارب الشعرية الليبية تحاول بناء نصٍّ تتناغم فيه اللغة والفكرة وتنبثق تلك المنحوتة المتكلِّمة بضرورة أن نتحرَّر من تنويع الموت البلاغي الواقف على حافّة اللاجدوى / اللاجمالي، تجربة الشاعر سراج الدين الورفلي مثال ناضج لمحاولة تركيب صوت حقيقي وواحد لتلك الثنائية: اللغة / الفكرة.
وفيما يتصل بمسألة وعي وإدراك الشاعر يتابع: هذا الإدراك ملزم بمعرفة التاريخ المضمَر للكلمة ومعناها خارج التداولات القاموسية، خارج صفة الجثة.
وفي سياق متصل يفيدنا بخصوص الرؤية المعرفية للنص الشعري قائلاً لا أعتقد ذلك، إنها مسألة تتعلَّق بمدة الرغبة في تجاوز المخيال النمطي لاختزال الإدراك كهمٍّ تنتجه القراءة والتفكير والغضب أحياناً.