الشاعرة الليبية “سميرة البوزيدي” تؤمن حد اليقين بنبوءة حرفها في بلادٍ تبتسم للموتِ وتجبره على الركوعِ في مِحرابِ الصبرِ
الكتابةُ معجزةُ الشاعر،والشعرُ ملاذه الدائم و طريقته في فهم الحياة والتواصل مع الآخر
بلادنا عظيمة وشعبنا سيتجاوز كل شيء ليمضي نحو السلام والرقي والحرية
نحلمُ في الوطنِ الجديد بحريةِ الكلمةِ لتصبح يداً تعلو في وجهِ الظلمِ والخوفِ
حاورتها الشاعرة الفلسطينية وجدان شكري عياش
شاعرةٌ تُهدهِدُ ليلَ مدينتها الدامي بحكايا لا تعترفُ إلا بالحقِ والعدالةِ ، شاعرةٌ تُؤكِدُ أن الحياةَ ممكنة رغم وحشية الحرب على رهافةِ أرواحنا وصبرنا ، بطلُ حروفها يستبدلُ طقسَ الفقد برملِ بحرٍ يحقُ له الانتخاب وريح التغيير عالقة بأكفان الرصاص ، شاعرةٌ تؤمن حد اليقين بنبوءة حرفها في بلادٍ تبتسم للموتِ وتجبره على الركوعِ في مِحرابِ الصبرِ ، شاعرةٌ تُوارب ظلها وتتوغل متواربة خلف القصائد الغالية ، تؤمن إيمان المتصوفة بأن النص هو الذي يقولها دون الحاجة إلى التواجد المستمر ، ديوانها الأول كجدوى لهذا التواري الطويل كُلها أمل بأن يكون ذا جدوى كما تزعم، أنها الشاعرة والكاتبة الليبية سميرة البوزيدي .. صدر لها ( جدوى المواربة ، أخلاط الوحشة ، السير في توقع ، يضيء نفسه ، معابر زلقة ، خشبٌ يدخنُ في العراء ، بوابة الحلم وهو قراءات في المشهد الأدبي ، ولها مخطوطان شعريان تحت الطبع ، ولها أيضاً كتابان قراءات نقدية تحت الطبع أيضاً .
– بِكفاءةِ طيرٍ مثابرٍ على الهجرةِ ، تُهندسين عُشَ التأمل وتحتفظين ببقايـا قش البدايـات كي تؤنسين وحشة الدرب ، تصوغين من رهافةِ النبضِ تجليـات حرفٍ عاشقٍ ، وتنحتين في جدارِ البدايات هاجس التصدي للعدم ، للعطب ، للتلاشي ، دعينا نُصغي لمواويل النهرِ وبدايةِ فيضانِ الحرفِ على تولهِ رُوحكِ ، من أول ( جدوى المواربة ،أخلاط الوحشة ، السير في توقع ، يضيء نفسه ، معابر زلقة، خشب يدخن في العراء ….. وحتى بوابة الحلم ؟
سميرة _ يااااه .. البدايات كم كانت طرية بندى الشعر ، لا أذكرني إلا وأنا ملتفة في خمائله ، أنام وأصحو على فوران الحروف ونداوة المعاني .. ( جدوى المواربة ) كان الديوان الأول ، جاء طافحا بكل ما فيَّ ، ماسكا بيدي نحو عوالم من سحر وأخيلة خصبة على الدوام .. جدوى المواربة كان تذكرتي لذائقة العديد من محبي الشعر قوبل بترحاب كبير وبعدد لا يحصى من القراءات التي سبرت بمحبة نصوصه .
– كالريحِ تأتين من رحمِ وطنٍ يتخلق من جديد ، يتأرجحُ على ميزانِ قوى التغيير والرغبة في سلبِ الرصاص قوة غدره ، والإصرار على الصعودِ لِقُبةِ الرُقي بإعدادِ الكمائن للفشلِ ، للهدمِ ، لتبعيةِ الفردِ المستبد ، والاستنادُ على كتفِ البِناء كي تتعاظم اللحمةُ الوطنيةُ الواحدة ، كيف لِطفولةِ رُوحكِ أن تُعايشَ هذه الفوضى ( البناءة ) في مسيرةِ وطنٍ من حُلمٍ وندى وقهر التجاوزات التي أربكت وهج الثورة ؟
سميرة _ هي ارتباكات مشروعة جداً وطبيعية لدى كل الشعوب في مرحلة ما بعد الثورات ، بل أنها عندنا أخف وطأة ، الحياة تعود إلي وتيرتها رغم كل شيء ، صحيح أنه ثمة فوضى ولكنها ليست بالفداحة المتخيلة .. بلادنا عظيمة وشعبنا سيتجاوز كل شيء ليمضي نحو السلام والرقي والحرية .. وقد حاولت عبر نصوصي قبيل وبعد التحرير مواكبة هذا الحدث العظيم .
– أيُهما أكثرُ وجداً لِمتاهةِ الروحِ ونحن نلجُ نفقَ الحرف ، الزهو الذي يتملكنا ويغرينا بالمزيدِ من الكتابة حينما ننتصرُ على الموتِ بديمومةِ الحرفِ ، أم الفناء الذي يترصدُ لِنقاءِ بقاءنا حينما نُكثِرُ من الجفاء ؟
سميرة _ هذا الزهو لابد منه .. زهو يطال خالق النص وله الحق تماما في ذلك ويجعله على تماس مع الشعر كممارسة وجودية تحقق له حياة ما بعد الحياة ، فما أحلى الشعور بأحفاد يقرئون شعر جدتهم وجدهم ، سنورث لهم زهوا بنا بما صنعناه في حياة ما ليصل إلي السلالات القادمة منا ، يا لروعة الشعور بذلك ..شكرا يا ربي على نعمة الشعر.
– يقول الشاعر الفلسطيني محمد القيسي :- ( آهِ أيها الوطن الجميل ، كم تبدو أسراً وفاتِناً في زمنِ الموتِ والتحولات ) ، كُلنا نحمِلُ صليبَ اللجوء والانتماء لرايةِ وطنٍ نسنِدُ على خاصرته هذا الخلق الجديد من قيامِ الحريات ، كيف لِرؤى الثورة أن تتجاوزَ فداحة ما سُفِح من دمٍ على بِساط التغيير كي نكون عاصفةً في وجهِ الزيفِ والتملق ، ونُعدَ كمائنَ التسامح لمن أوجعه الظلم بسياطه ؟
سميرة _ هذه الرؤى – بما أوتيت من حرارةِ النزيفِ الذي جلب للوطنِ حريةً كانت مسلوبة – كفيلة بتجاوزِ كل شيء ، تجاوز لوعة فقد الأحبة والدمار الذي خلفته مرحلة الاستبداد في النفوس .. في الحقيقة أنا متفائلة فالوقت والتضامن الإنساني كفيل بالبدء بمرحلة جديدة لن تكون بين يوم وليلة ولكنها سـتأخذ وقتها ،وهذا كما أسلفت طبيعي في تاريخ ثورات الشعوب.
– أهُنالِك مجدٌ شعريٌ وأدبي يُضاهي أن نشعُرَ بأننا كائناتٌ تمتلكُ ماهية فعلِ الكتابة وجرأة الرؤيا ، مُنطلقين من فكرةِ الانتماءِ لوطنٍ من رائحةِ بحرٍ ورملٍ وندى ، ومن دمعةِ صبرٍ على فُراقِ من رحلوا غدراً وبُهتاناً ، ومن مرارةِ الفقدِ ونحن نقودُ الخُطى لِظلِ شجرٍ وارف الانتماء لوجعِ اليتامى والثكالى وأرامل الحق ؟
سميرة _ بلى هو قمة المجد والتيه الشعري ، فهذا الوطن الذي على شاكلة قلب كبير سيضمنا جميعاً تحت عباءة الحرية والتقدم والكرامة ، وحريٌ بالشعر أن يواكب هذا الحدث العظيم .
– يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش :- ( تحنُّ في الزحامِ إلى نفسِك ، إلى خلوةِ الكتابة ، الكتابةُ اقترابٌ واغتراب يتبادلان الماضي والحاضر ، وانقلابُ التشبيه على المُشَبَّه ، وتمويه الواقع بالصورةِ ، بيديّ الحنين الحريريتين تُروضُ المسافة ) ، أترانا نمتلِكُ رمادَ حرفٍ ننثره صرخةً في وجهِ الخوفِ ونُحرض الجمودَ على تقبلِ النقدِ كي نظلَ مسكونين بوهمِ التحدي ؟
سميرة _ هو ترويض مسافة حقاً .. نحلمُ في الوطنِ الجديد بحريةِ الكلمةِ لتصبح يداً تعلو في وجهِ الظلمِ والخوفِ .. الكتابة تستلزمُ دائماً المزيد من الوعي بالحياةِ بكلِ شيء يشكلُ موضوعاً لنصٍ يقولُ شيئاً جديداً أو يحاولُ على الأقل ذلك.
– نادراً ما تأتينا الحياةُ موشاةً بوهجِ القربِ ، وغالباً ما يُغادرنا الإشراق حينما لا نستظلُ بذكرى الغائب ، أراكِ مثلي تحلُمين بوطنٍ يحتضنُ كل الطوائف المختلفة مع الولاءِ لرائحةِ تُرابٍ علق على حجارة وجذوع أشجار حقوله ، كيف لنا أن نكونَ في مستوى هذا الولاء ، وما الذي تُعنيه كلمةُ وطن لمن في رقةِ مشاعركِ وامتداد رُوحكِ مع أطيافِ أحبةٍ توسدوا الثرى ، ورحلوا خلف البحر والريح ؟
سميرة _ الوطن معنى لكلمةٍ عظيمةٍ تلمسناها في الإصرارِ على المقاومةِ وفي رعشةِ النصرِ .. الوطن أغنية في فمِ طفلٍ يتلمسُ هواءاً مُختلفاً .. وأحسُ أن الذين رحلوا في سبيلِ هذه القيمة من ذوي الحظِ العظيم في زمنٍ انحسرت فيه المقاومة وماتت الثورات ، يا له من حلمٍ كبيرٍ نتلمسه بفرحِ التحقق يوماً بعد يوم.
– وطنٌ ينهضُ بِجلالِ واقعٍ مأساوي ، ويرقى بِنبيذِ شهداءِ حريته إلى مستوى الرمزِ في أسطورةِ المنحِ والعطاء ، وطنٌ من أرثٍ فادحٍ بلوعتهِ ، يمنحُ الذاكرةَ وجهاً بِلونِ دمٍ مسفوحٍ على أرضٍ أنهكت وتعبت من حصادِ الأسى ، ما الذي يمكن أن يُضيفه وهج الكلمة لهذا الخراب الذي ينصبُ أوتادَ خيامه قُرب ربيعٍ عربيٍ آتٍ رُغم شُح المطر في أجواء التضامن العربي ؟
سميرة _ يضيفُ الكثيرَ يا عزيزتي .. هو خرابٌ مؤقت ..الكلمةُ الزلزلة لا ينبغي أن نبخسَ وقعها.. برأي ينبغي أن لا نتشائم ، يكفي أن معظم الثورات أتت أُكلها وأنها أزاحت مثاقيل طغاة ما حسبنا أن نشهد سقوطهم .. والزمن كفيل بمحو كل خراب.
– لُغةُ السرد الشعري لا تخضع للثابتِ والمُحدد والمُؤطر ، المحُها تُطِلُ ، تنهبُ ذاكرةَ المبدع وتُؤجِجُ ما حوله ، بأي لُغةٍ مُبدعةٍ أتقنتِ كتابةَ النص الشعري وكتابة القراءات النقدية في المشهد الأدبي ، كل هذا كي تُأكدين العلاقة الوثيقة بين خيال الكاتب وواقعه ، وبين بركانٍ يموجُ بشجنه لِفهمِ الحياة بنبضِ الكاتب وبين ما تنجزه الكتابة كي نكتشف الآخر ؟
سميرة _ الكتابةُ هي اكتشافٌ للذات أولا هي نتاج أخيلة أججها الشعر فطفقت ترسم ذاتها .. الكتابةُ معجزةُ الشاعر ، والشعر ملاذه الدائم هو طريقته في فهم الحياة والتواصل مع الآخر.. ومن جهتي كانت القصيدة ولازالت رئتي الثالثة وكما قلت هي ممارسة وجودية فعلية تكاد تكون يومية بالنسبة لي.. يكفي أن الشعر منحنا هذا الهواء النظيف في غرفة الكون.