سيرة

للتاريخ فقط (29)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.

الشاعر عبدالحميد بطاو

الحلقة: 29/ حمـرة في الوجــه.. ولاغـصــّـةً في الخـاطـر

هذا مثـل شــعبي كان يمثل الحكمة التي أومـن بها في حياتى وكـنت أردده في لحـظات ضـعفي أو بداية الاحساس بتخاذلى لكى أجمع شتات نفسى وأواصل مسيرتى مرتاحًا من الكبت والضغط والتبكيت الذى يأتى دائمًا بعد المجاملة ومسايرة الآخرين كنت أتحمل لحظة المواجهة مهما كانت قاسية وتأخذ لحظات وتنتهى هى عندى أحسن بكثير من المسايرة والمجاملة التي تسبب القلق والضغط على الأعصاب.

قرأت قصة وفاة الشاعر العملاق (صلاح عبدالصبور)، وقد كتبت تفاصيلها الصحفية الكبيرة عبله الروينى باعتبارها شاهد عيان كان الشاعر عبدالصبور مكلف بوظيفة قيادية اضطرته لزيارة الجناح الإسرائيلي بمعرض كتاب القاهرة الدولى وألقى كلمة في الجناح لا أدرى كيف كانت ولكن ظل هذا الموقف يأكل أعصابه ويشعره بالندم.

والأسف الى أن اجتمع تلك الليلة التي تحدثت عنها (عبله الروينى) وكانت ليلتها هى وزوجها الراحل الشاعر الكبير أمل دنقل في زيارة لبيت الشاعر (أحمد عبدالمعطى حجازى) وكان في السهرة (عبدالصبور) أيضًا ويبدو أن أحد الموجودين وأثناء تجليات الخمر قال لعبد الصبور: 

لقد بعت نفسك رخيصًا ياصلاح.

فانفجر عبدالصبور غضبًا وهو يرد على الذى قال له تلك الكلمات، ثم شعر بضيق تنفس فحملوه بسرعة لمستشفي العجوزة ومات في نفس الليلة (يا للشعراء العظماء حينما يورطهم الواجب الوظيفي في اتخاذ مواقف ضد قناعتهم تبقى تنخرهم حتى تقتلهم).

وأوحت لي قصة وفاة عبدالصبور بقصيدة قلت فيها:

كـان لابـدّأن يـنـحـنى
فـوق سـجــّادة الـقـصــر
كـى يلـقـط الـورق البنكــنوتْ
كـان لابــدّ أن يبـتـسـم
رغـم إحسـاسـه
بالنــّـفاق وبالــذلّ
في حـضـرة الجــبروتْ
كـان لابـدّ أن يبـتـنى بيتــه
رغــم أيـمــانـــه
بهـشــاشـة مـا يبــتـنى العـنكــبوت
وأنـا حيــنـماســألـونـى
ألــيس صـد يقــك…؟
قــلت: نعـــم
والتـزمــت الســّـكـوت
وانـطـلقــت
أجـهــّز كـل طـقـوس الجــنازة
كــي لا أفـــاجــأ
حــين صــديــقي يـمـــوت

الشاعر صلاح عبدالصبور
الشاعر صلاح عبدالصبور (الصورة عن الشبكة)

حينما ودعت الوظيفة وضغوطاتها وإذلالها شعرت بحرية منعشه وراحة كامله كان الهاجس المقلق الوحيد أن الراتب التقاعدى لا يكفي لإعالة أسرتى وشعرت بأن الحلم الوردى الذى كنت اجهز نفسى لتحقيقه وهو البقاء في البيت والتفرغ للأبداع والكتابة أصبح مستحيلا وأصبحت مضطرًا للبحث عن عمل آخر يجلب لي دخلا مساعدًا يعيننى على الإيفاء بكل متطلبات الزوجة والأولاد الذين كبروا ودخلوا الجامعات وبالتالى كبرت معهم مصاريفهم ومتطلباتهم فاضطررت لطلاء سيارتى باللونين الأبيض والأسود، واشتغلت بها (تاكسى) ركوبه عامه داخل المدينة.

كثيرون لم يستسيغوا هذا الموقف الذى اتخذته مضطرًا بل بعضهم اعتبرنى (أمثل لأرق عزم الناس على حالتي)، وهكذا كتبت قصيدة أقول في آخرها لهؤلاء وهؤلاء:

ولـذا لـم يـعـد مـن مفــرّ
أن أواجــه كـل خــيارات هذا الزمــان
ولا أنـحــنى للـعـواصــف أو أنـكـســـرْ
قــلت
حـين أســتبـدّ بقـلـبي التــّوجـّس
قــدآن أن نتــّــفــق
لـيس ثـمــة مايـُخـجــل النـّــفـس
حـين أجـول بـهـذى (الركـوبـة)
مـثــل النــّـوارس
ألـقــط رزقـــى
وأحمــل رأســي على كـتـفي
ولا أتخـاذل أو أنـــزلـــق

كان من الذين تأثروا لوضعى هذا الصديق الشاعر أمراجع المنصورى من القبة فعزمنى ذات مساء في مقهى فيلادلفيا الذى على الكرنيش وبعد مقدمات وحوارات سمعت الصدبق امراجع يقول لي وهو يتلعثم ارتباكًا صديقى إن كل أصدقاءك وكل من يعرفونك متذمرين من وضع نفسك في هذا الوضع الذى اخترته فقلت له اى وضع.

قال لي انت شاعر كبير وحينما تمر على الناس تقود هذا التاكسى وتحمل زبونًا من أجل دينارا ودينارين يشعرون بالخجل لك ومنك، فقلت له: وما العيب في ذلك. قال لي: هذه المهنة ليست لك ومن المفترض ان تجلس في بيتك بعد تقاعدك وتواصل ابداعاتك الشعرية والمسرحية وغير ذلك.

فقلت له: ولكن الراتب التقاعدى لا يفي بكل متطلبات الأسرة.

قال لي: في امكانك ان تعمل في مجال ابداعك وتبدع بمقابل. 

فقلت له: ضاحكًا هل تجدلى زبائن يشترون قصائدى. 

قال لي متحمسًا: نعم وستحصل على مكافأة اكثر بكثير مما يدره لك هذا التاكسى.

فقلت له: أين؟

قال لي: تكتب قصيدة أو مقالة أسبوعية في صحيفة (الجماهيرية) أو(الزحف الأخضر) وسأنشرها لك وأحضر لك منهم مكافأة شهرية مجزية.

فقلت له: شكرًا صديقى امراجع ولو كنت ارغب في مثل هذه الأمور ماطالبت بالأحالة على التقاعد. ولم أنم ليلتها حتى كتبت القصيدة التالية وسلمتها له:

لا والنــّبي مــا يـكـون هــذا دورى
ونخـا ف من العرب
نـكـذب أنقــول ضـرورى
*** ***
أنقـــول خــذ ونـــى
بالغصـب ما فرصة الرفـض عطونى
ونـااللــّى ولايـل عـ الكلام الدّ ونــى
وجاهز لهـم في الحال نبـقى ثـورى
لا والنــــــّبـــى
نبـــقى انــــزايـــد
ونفلسـف ونشرح في كــلام القـايد
أبشـنطـه امصـبّى كـل يـــوم زرايـــد
ونبـقى أنراجـــى نين ياتــــى دورى
لا والنــــّبــــي
نــين يــاتــى قــولـــى
مكسـوف من الصـّوار كاسر طـولـــى
ويبقـواالعرب من ضـيقهم يشـكوا لي
وكـل مشـكله أنقـول حلــّها موش شورى
لا والنــّـــبــي
حلــها مـو في أيـــدى
ونتقـن أسـلوب الكــــذ ب والتبـليدى
أنجـافي أصحابي ونخـلف امــواعيدى
وينشـــف أرياقى من الكـلام الـزورى
لا والنــّبــــــي
ينشــــف ريـقـــى
ونخســرأحــبابي وينطــفي تبريـقى
ونبقـى أنعـانــد في دليــل طريقـــى
لا…لاخـــير من نخسـر جمـيع أمـورى
لا والنــّبــــــي
لامــا أنـــوافــق
نـكـذ ب ونمـشـى في الغـلط وننـافق
الـد نـيــا لــــها دوره أتهــــدّ الواثـــــق
ويبــهت الأزرق نــين يبــقــى مـــورى
لا والنـــّبـــــي
لا مـــوثـــوبــي
ولا نلـبســه ولا أيجـى أمفـصـّل دوبــى
أسـواقت التاكسي اليوم هى مكـتوبي
وقـولــت الله أيعـــينك أتزيـــد ســــرورى
لا والنــّبـــــــي
أتــزيـد حمـاسـي
وتريـّح ضميرى وفـوق ترفـع راسى
خلــّيك من قـولت أفلان أسـياسي
يظــهر بعــد مــدّ ه اللــّى مطمورى
لا والنــّبـــــــي
يظــهر بـــاين
وترجـع افـلوس الدّ يـن للـّى دايــن
ويخـجـل اللـّى كان الضـميره خـايـن
وتخـصب بعـون اللـه الأرض البــــورى
لا والنـــّبــــــــــــــــي

هذه هى الحمرة في الوجه التي عنوت بها حلقتى هذه ربما أحرجت الصديق الشاعر وربما غضب منى ولكننى حافظت في تلك اللحظة التاريخية على بقائى في الموقف الذى اخترته لنفسى وليكن الراتب هزيل وليكن التاكسى مخجل ولكننى كنت متوائمـًا مع نفسى ومرتاحًا لوضعى فحرج قيادة التاكسى أهون بكثير من حرجى في حضرة أولادى حينما تسقط ورقة التوت كما سقطت في هذه الأيام. 

دعونا نتوقف عند هذا الحد وسنتحدث في الحلقة القادمة إن شاء الله عن مواقف وأمور كان لها تأثيرها في حياتى فالى الحلقة القادمة.

مقالات ذات علاقة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (8)

حواء القمودي

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (25)

حواء القمودي

اليوم الأول في المدرسة

سعيد العريبي

اترك تعليق