كان المرض (وقى الله الجميع) أحد الأسباب التي حولت أميراً هندياً يدين بالبراهمية ويدعى (سيدهارتا) إلى (بوذا) وذلك بأن ملأت عليه فكره ودعته إلى التخلي عن ولاية العهد في مملكة والده، الملك الذي كان يعده لخلافته، وليس ذلك وحده، بل ترك أسرته إذ كان قد تزوج ورُزق بطفل، تخلى عن ذلك كله، وتركه وراءه متوجها إلى الغابة ومنقطعاً إلى التأمل في واقع الحياة والعالم، ومتصارعاً مع الأسئلة التي كانت تتمخض عنها ملاحظاته وتأملاته، والتي تتمحور في مجملها حول إمكانية خلاص الإنسان مما ينغص عليه حياته ويفسد أفراحه ويسلبه راحته مثل الألم والشيخوخة والمرض والموت، وحول كيفية تحقيق ذلك الخلاص إن يكن ممكناً.
وظل منقطعا إلى شاغله ذاك حتى جاءته الاستنارة في واحد من تأملاته، وأصبح (بوذا) أي مستنيراً وفق عقائد قومه الذين كانوا يدينون بالبراهمانية، وكالعادة أصبحت أعداد من البشر تلتحق به ليتتلمذوا عليه ويصيروا مريدين له وأتباعاً، ولم يفت أولئك التلاميذ والأتباع والمريدين أن يتحدثوا بقصته وأن يذيعوها في كل الإرجاء، مصحّفة ومخضبة بكل ما تمخضت عنه مشاعرهم وأفكارهم، وما أضافه خيال كل منهم من زخارف ونمنمات، لكن لم تخرج تلك الصيغ عن نسقها العام ولا هي انحرفت عن الهدف الذي سعت إليه، أي إكبار ذلك المتأمل واحترامه، بل وتقديسه وحتى تأليهه عند بعض الراديكاليين من أولئك الأتباع.
ولكن لأنه لا بوذا ولا فلسفته، موضوع حديثنا هذا، فسنتركه ذلك كله هنا، لنكتفي بقول أن المرض ليس شراً كله، ولا هو سلبي بالمطلق، وكثيرون منا يعرفون أن هناك من الناس قد لا يحتاج إلى التلقيح للتحصن من مرض ما، وذلك لأنه سبق له أن أصيب بذلك المرض في مرحلة سابقة من حياته وشفي منه ليكتسب جسمه من بعدها حصانه ضد ذلك المرض، وهذا مثال على أن المرض مثله مثل كل الموجودات المستقلة بذواتها عن غيرها أو الناتجة عن ممارسات تلك الموجودات وعلاقاتها بعضها ببعض والتفاعلات القائمة فيما بينها، لا تجسد شراً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً, فالخير والشر كما السلب والإيجاب لكل من موجودات عالمنا نصيب منها، وإذا كنا نحن الليبيون في مجموعنا وفي الوقت نفسه كل منا على حدة نقف مثلما يقف كل آدمي آخر على امتداد رقعة عالمنا في مواجهة وباء طارئ (حديث أو مستحدث) لا فارق مهم، بل الفارق المهم فعلاً والجدير بأن نلتفت إليه هو فارق الموقف، أو بدقة أكثر فارق المواقف التي نتخذها إزاء أمر طارئ ولا يخلو من تهديد حقيقي لوجودنا نفسه، وذلك كاف لأن يثير الجزع والرعب، ويربك الإنسان، خصوصاً وأن الغموض يكتنف التهديد الذي نقف بإزائه إضافة إلى ما يحيطه من تضارب الأنباء التي تتناوله وتروج حوله، والتي ليست بريئة بالتأكيد من أثر ذلك الغموض فيما تضيفه من تنميق يغلب عليه التهويل والمبالغة، وبما يتمخض عنه ارتعاب البعض واضطراب مخيلتهم، وحتى نواياهم وهواجسهم.
كل ذلك لابد من أن يكون مؤثرا وبقوة، خصوصاً على مجتمع فرضت عليه ولعقود متواصلة أصناف من التسلط والقمع والحرمان والخداع، وأخضع لمناهج من الإملاء الغبي والتلقين القسري بهدف تدجينه وتحويله إلى ترس في آلة صماء هدفها طحنه وتذريته مع الريح، ولابد من أن تورث ذلك المجتمع جروحا غائرة في حنايا أفراد، وتشوهات في نفسياتهم، وإذا لم نرد ذكر المركبات والعقد النفسية فلا يحسن أن نغفل عن تغول ظواهر وممارسات لم يعرفها مجتمعنا قبل عقود الظلام إلا كاستثناءات سلوكية لا يقاس عليها، مثل الأنانية والجشع والغل والتشفي وما إليها من الأدواء الفردية والاجتماعية، ناهيك عن اختلال الرؤى والأحكام، وتدني مستوى الآمال والطموحات واختزالها في المكاسب الآنية، والخضوع لفوضى الانفعالات العاطفية وغلبة الأهواء المتهافتة والمبتذلة، والأدهى من ذلك كله هو ما ينتج عنه من تخدر المشاعر والفكر وتبلدها جميعاً، قد ننفي ذلك أو ننكره لكنه يفرض نفسه كواقع فعلي نرسف فيه، وكونه كذلك لا يبرر محاولة إنكاره ولا تبريره، فمؤكد أننا لم نختره بل فُرض علينا فرضاً وأخضعنا له إخضاعاً بأسوأ أساليب التسلط خسة وأكثرها نذالة، لكن ذلك لا يعني أن نستمرئ تلك المساوئ ونقبل بها مستسلمين ومسلمين بأنها أمر واقع، فما من أمر واقع إلّا وهو قابل للتغيير والحياة مثلما يقول جبران خليل جبران (لا تقيم في منازل الأمس) والحياة بما تحمله من ثراء بالمعاني والقيم المنهضة والمحفزة والداعية إلى التطور والارتقاء، تدعونا إلى أن نتحرر من فوضى الانفعالات والانحيازات دون الإنسانية، وأن نعتمد العقل نظرة عقلانية في مواجهة مصاعب الحياة ومآزمها وتهديد مفاجآتها، ولعل مما يوافق العقل في الموقف إزاء تهديد (كورونا) أن نحاول الاستنارة بآراء من لديهم دراية تخصصية في شأن الصحة، وأن ننصت إلى ما يقولونه باهتمام وأن نعمل بما يشيرون به علينا، ففي هذا الشأن بالذات، يجسد سماع ما يقوله مختصو الصحة من أطباء وصيادلة وباحثين وخبراء وممرضين ومساعدين، والتقيد بما يشيرون به والعمل بمقتضاه تطبيقاً مباشراً وتلقائياً (لا يبدو إننا نعيه ) للأمر الإلهي في سورة النساء
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)٠
ففي شأن ما يواجهه العالم اليوم ونواجهه من تهديد كورونا وغيرها من الأدواء ( وقى الله الجميع ) هم وحدهم ولي الأمر الذي علينا الإنصات إليه وإطاعته، وينسحب ذلك بالطبع على كل جوانب الحياة ويمتد إلى كل من لديه معرفة حقيقية بأمر من أمورها التي تمس مجتمع من المجتمعات هو ولي ذلك الأمر، وذلك معناه أن ولي الأمر الحقيقي ليس طاغية جلفاً ولا أفّاق يدّعي المعرفة بكل شيء ليخفي جهله بكل شيء، كما أنه ليس متطفلاً على السياسة بدافع حب الظهور وانسياقاً مع النزعات الاستحواذية.