يجمع كتاب «شتات القول» الصادر العام 2008 للشاعر محمد الكيش، بين دواوين ثلاثة إضافة إلى الرابع المعنون للمجموعة «عن بهية والزمن الأخضر 1982، المراثي 1984، شواهد محمومة من كتاب الفيض 1991».
يدشن الكيش دروب رحلة الشتات بوقفات استشرافية لذاكرة القصيدة، وهي تتفلت أحيانا في تمردها القديم، محاولة التحرر حتى من قبضة اللغة التي طوعت لها عوالم الخيال، وتتمادى مسترسلة بجموح يرسم شكله العام توقيع الهروب من واقع يباب.
ففي نص «الانحسار» يغلب الطقس الانكفائي مع تبنيه الخجول لأي إرهاصات تمسك بابراقة تنقله إلى منصة الإجابة، إذ كل الحلول تتبدى محجبة بالتساؤل المرحل لذلك «أدق الأوتاد/ أرفع الأعمدة/ وأضفي الستائر على خيمة القصيدة » ص7.
هذه المحاولة ليست طلبا لاسترداد ذات محطمة، بل كشف لأحقية السبر الفلسفي لنص يجافي التقليد والثبات، بل سيحلم كل ما أمكنه ذلك بالتحليق في فضاء شغوف بالتمدد، معللا توسعه اللامنتهي بشغب طفولي يضرب عرض الحائط بضرورات التعقل «كنت أريد أن أستمع بهذا الضني المشاغب/ أشرع أجنحة القول/ في وجه العاصفة» ص8.
لكننا نرى في نص «شتات القول» المعنون للمجموعة أن كل تحفزات الوثوب السابقة، ليست كافية، فقد ظلت مشدودة في كل تلك الانعراجات بانكسارات تصر الذات الشاعرة على وجودها، حتى إنها كادت لتتحول إلى نقطة مرجعية ثابتة: «خيبة مريرة للشاعر/ وعزاء بارد في الشعر».
كذلك نص «الزمان» لا ينفصل مضمونه عن هذه الستائر المعتمة التي يسدل بها الشاعر نوافذ القصيد، كأنه يمارس بشكل مبالغ فيه جلد الذات، إضافة إلى أنه يمارس لعب دور شاهد إثبات حالة من حالات السقوط الحر للنص، وكذا فالإحالات تأبى في جميع الأوضاع الثبات حتى وهي تلتحف رداء الموت، حيث يبقى هناك خيط شفيف لحياة تروم النهوض مستبسلة أمام أسوار الغياب: «عاد من غيابات الوطن/ منكسرا وحزينا ومنغمسا في أوحال الوقت/ لكنه عاد؟».
الفارق هنا أن تسجيل الحضور لم يكن محمولا على المعنى الشعري، على الأقل في مراحله الأولى، إذ يمكن اعتباره ترسيما لوجه آخر من وجوه العودة، والتي تتبنى في ملمح أمنياتها اللاحقة الارتماء مرة أخرى في أحضان ذاكرة النص، بعد أن مارست معها غواية الهروب الكبير.
وفي عنوان «هذيان» من ديوان «شواهد محمومة من كتاب الفيض» تواصل الغواية استبدادها بالكتابة ولربما تصبح لعنة: «أنقذني من هجير الكتابة يا إله الليل.. أنقذني أنا الآبق من قهر القصيدة»، لكننا نبدأ في تحسس بوادر انعطافة أخرى تتجهز لتغيير زوايا الرؤيا، فيما يشبه تبادل الوقفات بين ضفتين سواء داخل النص الواحد أو بين قصيدة وأخرى بذات الديوان.
ففي نص «الانكسار» مثلا: «ليس من شجر في هذا البراح يسند الظهر»، ثم في ومضة أخرى «أنت القادم الوحيد للحياة، تلحق بك الأرض، والشجر» ص 53. وفي نص «توله» تتبدى أنوار خافتة في الظهور رويدا رويدا لتبييض سوداوية مشهد الشتات، يتمظهر في صورة تهويمات شاردة لكنها مشحونة بالماحات مباشرة، تتفجر مصارحة وتحيد عن التلبيس والمراوغة والمداراة، فحجب النوافذ لن تجدي في فضاءات مد رومانسي له قوانينه وعوالمه الخاصة، وإذا ما جالت إلى سرداب التخفي سيتم اللجوء أحيانا إلى تأطير تلك التهويمات فلسفيا: «أيها العاشق/ أنت كالبذرة في جوف أوهامي/ إن أودعتك السر ستموت/ وإن منعتك خملت».
وبتأمل نصوص «توله، الهوجه، البحر» سنجد سلالم تقودنا إلى مرتكز مفصلي في دوائر الفيض، وهو المرأة كنص يحاكي الذات الشاعرة وكآخر أنثوي يكمل شطر الروح الناقص: «ليهبك البحر ممالكه الخفية، يفتح لك في الهزيع كوة على ملكوت الرغبة».
وإذا كان ديوان «المراثي» يواصل تجسير العلاقة بين شطري الذات في بعض نصوصه كامتداد لشواهد الفيض، فإنه يعود في نصوص أخرى مذكرا بطور الانتكاسة الأم في «شتات القول»، مشارا إليها في عناوين «اليأس» و«اليباب» و«البكائية»، وحتى في نصوص «الفرح، الحرية» يحاول إجراء كشف مبدئي للذاكرة وتذكيرها بالسالف «لا تفرح/ بعد وحشة الطريق/ ونحن على سفر».
وبالوقوف عند ديوان «بهية والزمن الأخضر» يلتحم عقد الدائرة بصيغتها الأنثوية مع دوائر بهية السابقة في الدواوين الثلاثة، التي تم تضمينها رمزيا أو باسمها الصريح، فهي هنا لا تعني الأنثي بقاموسها الفيزيائي فقط وإنما شكل فسيفسائي للذات والمرأة والوطن، فهي لا تلبث الخروج من أطياف الحلم إلا لتباغت زمنا يقتفي فيه الشاعر خطوات بهية في ركح الزمن القومي، حيث مرافئ الذاكرة تحاول ترتيب مواضع مصباح الجنون. وهو بالتأكيد جنون الزمن العربي.