طيوب المراجعات

الصورة .. أفكار تتحدى الفرضيات

كيف ننظر الى الصورة .. بإحالاتها الزمنية والمكانية، ام بمجموع التأويلات التي تختزلها متجاوزة الترجمة الحرفية للواقع الى توصيف لأحداث محتملة ؟ بمعنى خوض معركة التعبير المرحل، التماسا لديمومة زمنية اطول .

قد تكون الاجابة هي فرز المتلقي لكل مدلولات العناصر وتحليلها، ولكي يحدث ذلك لابد لإدراك مسبق ان يتم، فنحن ننظر الى حياة معاشة وعشناها تنسلخ عنا بكامل تفاصيلها، ونلجأ الى الرسم والفوتوغراف توثيقا لتلك الذكريات المتفلتة .

كتاب الصورة المكونات والتأويل

في كتابه (الصورة .. المكونات والتأويل) يحاول غوتبي ايصال معاني هذه الابعاد المجال المحرر للصورة من سلسلة الفرضيات الحاسمة، او مايعتقد أنها كذلك، واصلا بين النقطة التي انتهت اليها جداريات انسان الكهوف وبين فضاء الفوتوغراف الحديث، وهي رحلة توثيق لن تنتهي الا بانتهاء الحياة البشرية ذاتها .

والصورة في عمقها لا تجسد الواقع فقط بل تسعى الى محاكمته او تسقط آرائها عليه كيفما كانت، وتقدم نماذجها بحسب قدرتها على الانتقاء، هنا تواجه الصورة احدى عقباتها، بابراز الهدف وتجنب تسرب بعض العناصر المشوشة والمخلة بتوازن جوهر الفكرة، في مقابل الا تحول الانتقاء الى رهاب او فوبيا تلغي بعض من عفوية الصورة وروحها، وهو مالم يشر اليه المؤلف، وينتج لنا استدراكا يلمح اليه كتاب (حياة الصورة وموتها ) لريجيس دوبري، واضعا في استشهاداته الابعاد الانثروبولوجية للعمل والتي ستحرر الصورة من التقويض الفيزيائي لها وتحويله الى جزء مساهم في بناءها الفني ولا يشوهه .

ولكن الى أي مدي تبدو الصورة فضاء مستقلا ؟ بالرجوع الى غوتبي الذي يتوقف محللا لمسألة الثقافة والايديولوجيا كقواعد حاكمة للصورة ومتسربة كنسق مضمر، واذا ما تحدثنا عن جرأة التعبير في محاولة لكسر تلك القواعد، يمكن القول انه (بعد مرور اكثر من عشرة عقود على موت بيكاسو، وماليفيتش، فان كل ما ينزاح عما يسمى اللوحة الواقعية يندرج ضمن جرأة الديكورات الداخلية للبرجوازية الصغيرة والمتوسطة )ص58.

لتوضيح ذلك يعرض المؤلف فيما يشبه مقارنة بين ما انجز في العصور السابقة لشعوب الهند والصين والغرب الاوروبي في عهوده القروسطية، ومدى تأثير الاعراف الاجتماعية وأوضاعها السياسية والخلفية الدينية، على صور وجداريات تلك المرحلة .

لافتا أن الرسم ربما استطاع عبر تمرده الطويل تجاوز تلك القوالب، اذ منحت ثورة التشكيل الفرصة لتذويب اطر الايديولوجا وراهنية الثقافة الى ملامح تجريدية اوسع، وفي مقابل بقاء الفوتوغراف الى حد ما مقيدا بضرورات الموضوع المعالج، فان المتلقي كمنطقة وسط بين الاتجاهين، ينبغي اخذ اطمئنانه للفكرة بعين الاعتبار، نجد ذلك كمثال في بورتريه ستالين لبيكاسو، وكيف كان ستالين متصورا في ذهن الجمهور واستغرابه من الاختلاف الحاصل في البورتريه بالمقارنة، هذه المعادلة يكمن تعقيدها في (التشابه المزعزم بين العمل ونموذجه الواقعي )ص94.

ان مايحدث هو عملية ازاحة للمضمر النسقي الذي اشرنا اليه،والذي تناوله الناقد عبدالله الغدامي في كتابه (النقد الثقافي)، محللا للانساق المختفية في نصوص الحداثة، وهو ما تخفيه الصورة في كل مرة تواجه فيه المتلقي، فالاتهام مشمول بينها والقارئ، غير أن غوتبي حمله ضمنيا للأخير .

في محطة اخرى يتجه الكاتب الى شرح العلاقة بين المقالة و الرسم الصحفي، وكيف يمكن للصورة ارسال ذات المضامين التي يتناولها المقال، غير ان اللافت في الموضوع المتناول فنيا انحيازه الى الكاريكاتير،عدا أن المقالة الشارحة لموقف سياسي او اقتصادي، أو اجتماعي يمكن للرسم ان يعبر عنها بمضمون مرتبط بخلفية المعرفة المسبقة بين الفنان وجمهوره، وفهمهما معا لطبيعة المناخ المنتج لهذه الصيغة الكاريكاترية، فنحن نتحدث عن نمط ثقافي معين او تقليد ينبغي ان يكون موجودا، ليصبح طرح الرأي السياسي مثلا في هذا الرسم أوذاك مقبولا جماهيريا ونخبويا، بل ومطلوبا ايضا .

يعرض الكاتب شرحا لهذا، رسما ساخرا للرسام الفرنسي لوران فابر بجريدة اللوموند، يظهر فيه الرئيس الفرنسي جيسكار في زيارة له الى المكسيك، يراقبه جاك شيراك زعيم حزب التجمع من اجل الجمهورية آنذاك، مرتديا زي الثوريين المكسيك، ويخفي وراءه قنبلة يدوية، مع العلم ان الصحف المكسيكية تناولت الزيارة كاركاتيريا واستوعبها القارئ المكسيكي بسهولة، بينما لم يحدث ذلك مع الفرنسيين الا بكاريكاتير فرنسي، يقول مضمونه ان جاك شيراك القي خطابا يرى فيه المحللون غير ذي اهمية اثناء زيارة الرئيس الفرنسي للمكسيك .

ومن جهة اخرى تبدو الصورة اضافة لحقلها الثقافي، معنية أيضا بتنظم فضائها السردي، بعيدا عن تدخلات الكتابة (التعليق )، أي كيف تصبح الصورة مكتفية بذاتها فنيا ولا تسمح بتعويض هذا النقص خطا ؟ وهوما يقتضي دائما مراكمة عناصر الاستعارة (واستعمال مصادرها الخاصة، وأن تقترح عناصر متنوعة موجودة خارج المجال ان امكن ذلك) ص110.

بذلك يمكن للصورة كما يشير المؤلف الى تعزيز وجودها في موازات السرد، بل يمكنها ان تضيف احتمالاتها الخاصة كمادة خصبة للاقتباس كتابيا بعدما كانت في الماضي عالة علي التعبير النصي.

مقالات ذات علاقة

مراجعة لرواية “ناقة الله”

المشرف العام

القصة الليبية القصيرة من التقليد إلى التجريب، للدكتور عبد الجواد عباس

ناجي الحربي

صحيفة (العرب) الليبية العالمية اللندنية

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق