شخصيات

سيدى قنانه

الشاعر امحمد قنانة الزيداني بريشة الفنان صلاح الشاردة.
الشاعر امحمد قنانة الزيداني بريشة الفنان صلاح الشاردة.

 
امحمد ابراهيم قنانه الزيدانى. تجربة الأيام البعيدة. أسطورة الشعر والصحراء. الذي عليه مهابة من القداسة والتبجيل عند الكثيرين على امتداد ليبيا. اتفقوا في ذلك رغم الخلاف في التفاصيل. سيدى قنانه.. تاريخ مضى، لكنه لم يزل باقيا.
 
تلك (البوانيس) المتناثرة وسط النخيل والرمال قبل سبها وبعد الجفرة. الزيغن وسمنو ثم تمنهنت. وهذا التاريخ وهذا الذى مضى بقي يتردد صداه في كل ليبيا وحتى ماوراء أقاصى حدودها شرقا وغربا وجنوبا يصح أن يكون رواية طويلة تكتب.. أن يكون فيلما ينقل تلك الحياة وذلك التاريخ.
 
قنانه الأسطورة الكبيرة، كما يتردد في صدور الحفاظ والرواة والمعجبين، لكنه الحقيقة الكبيرة أيضا. ولد وعاش وتوفي في الزيغن وضريحه هناك. وأحفاد أحفاده هناك. وبيته القديم هناك. وقليل من الوثائق العتيقة بخطه ظل ولم يحرقه الزمن أو تضيعه الرياح والنسيان. الكتابة والحروف تتحديان القرون والأعوام. لايستطيع أحد أن يطمسها أو يزورها أو يكذب عليها. الصدق يغلب الكذب على الدوام. الكلمات أطول عمرا من التزوير والتشويه.
 
كان الرجل صاحب حكمة وخبرة وتجربة ومعاناة. له إلمام بالقراءة والكتابة. شاعر مثقف بمقاييس ذلك الزمن. عاش حياته بالطول والعرض. لم يعرف تاريخ مولده ووفاته على وجه التحديد. لكنه عاش زمن يوسف باشا القرمانللى (1795_1832). تعرف عليه وظل صديقا له ومقربا منه. كان يوسف يحب الأشراف والمرابطين وأولياء الله الصالحين. حاز مكانة أثيرة لديه. وجد فيه الباشا الرجل الشاعر الشريف والشجاع. ترددت قصائده بقوة ولم تكن رجع الصدى. تجاوبت معها المدينة والواحة والريف والبادية والصحراء. وحفظتها الأجيال التي تعرف قيمة الكلمة التي لا تموت واختلط شعره وكل شعر آخر حاول محاكاته نسب إليه.
 
والطرق والثنايا تعددت في الصحراء.. المسالك والدروب ومشاوير القوافل والتلال المترامية. تتباعد وتلتقي. تتوهج تحت الشمس وينيرها القمر في لياليه الساهرة. كان هناك طريق الطواحين. طريق أنور. طريق رومل. طريق المجابرة.. وكان هناك أيضا طريق قنانه. قنانه الهاتف والصادح بالشعر صاحب النفس الأبية. مثل المتنبي يجعل الممدوح في درجة المادح ويساوي بينهما. النفس الشاعرة لا تقل عما يقابلها من نفوس مهما عظمت مناصبها ودرجاتها.
(تركناه حب الوطن نمشوا منه).. وترك الزيغن خلفه. ترك فزان كلها. وفي طرابلس كان مستقرة عند يوسف باشا في السراي الحمراء. علاقة توطدت وقويت جعلته يدافع عن حقوق فزان المهملة والضائعة ومظالمها:
فزان مارديت بالك منها
بلا موت ياسيدى تبى تدفنها
 
فزان ماهى سقاله
ولاهيش في وادى وسيع الجاله
 
فزان بالغرغاز والكياله
بقعة دعاديش الحمير سقنها
 
فزان راه رعيتك
فزان ماهى ناسيه مديتك
 
والجى ماتقدر تجيك لبيتك
والفضل ماتغفلش ديمه عنها
 
ويحترم المخاطب الكلمات ويفهم ماورد في القصيدة ويخفف الضرائب عن أهالي فزان وظل ذلك مدى طويلا في عهد الترك والطليان وفرنسا أيضا. الكلمة تخترق الأسوار في الشمال لتصلح الاعوجاج في الجنوب.
 
والطرق والثنايا كلها توصل إلى شعر سيدى قنانه. وحين قال في تركناه حب الوطن.. (غلا الفحم رخص حرمة الياقوته.. ولا سحار يد الفارغة يملنا) أحس يوسف باشا بأنها تحمل غمزا وإشارة إلى زوجته (ياقوته الجهانية) ذات البشرة السمراء. لم يكن يعنيها قنانه. لكنه كان يجيد الرمز والإسقاط الفني مثل الضرورة الشعرية. مثل المعاناة الصادقة والحاجة الملحة في الإبداع. كان ماهرا في غزل الكلمات واللعب على حبالها الملونة.
 
وحين ظل يوسف يرسل ابنه (كيد الرجال) في مقدمة القوافل نحو الجنوب كان قنانه وابنه حسونه يقومان بواجب المساعدة للابن وقوافله وهتف بشجاعة: (كيد الرجال ونوبته وحسونه.. عليهم حفيظة خالقي مضمونه).. وظن يوسف أن ذلك احتقار لابنه في مساواته مع ابن قنانه في نفس الدرجة. لكنه واصل الهتاف والمواجهة دون خوف: (كيد الرجال ونوبته وعربها.. معاهم حسونه كبدتى ناصبها.. والعين ماتعلى على حاجبها.. وكل قرد عند امه غزال بلونه).
 
ولقنانه أصدقاء في برقة وطرابلس ومناطق الساحل والجنوب. الوطن كله صديقه. ليس هناك فرق. شعر الحكمة يتنقل. وأسطورة قصيدة الصحراء وأسمار الليل لا تتوقف في خريف القرى وكل الأماكن.
 
وتلك الزيغن. النخيل والضريح والوجوه الطيبة وأحفاد الأحفاد والميعاد. وتلك سمنو وعلى أعتابها تدب الكلمات وتزحف الحروف. وذلك السنوسي السايح الشناري يروي لقنانه. وأنا وصديقي الشريف علي لانمل الاستماع. وشريط التسجيل يدور. وضحى أيام الشتاء. والكلمات والإيقاع. أسطورة قنانه حياة كاملة. دنيا فاتنة بالزخارف والنقوش. كيف لا تصير رواية. كيف لا تصبح فيلما. كيف لا تتواصل الأجيال مع تفاصيلها.
 
قنانه من رموز الهوية الوطنية. قنانه الشعر وأسمار الليالي وحكايات الرجال. تركناه حب الوطن نمشوا منه.. بلا مال لاهو فرض لاهو سنه. يتردد الصدى والحزن في الأعماق. والطرق والثنايا تمتد ويتواصل التاريخ عبر الدروب بلا انقطاع.

مقالات ذات علاقة

المُستشـار سمير الشّـارف… فارس الدّستـوريّة فِي زمن الفوضويّة

المشرف العام

عبد الله القويري 
الكاتب الذي احب الفجر

أحمد إبراهيم الفقيه

عمر الكدي ..

بشير زعبية

اترك تعليق