أحمد رجب
لا تقدم د. نادية هناوي في كتابها “موسوعة السرد العربي .. معاينات نقدية ومراجعات تاريخية” الصادر حديثا عن دار غيداء للنشر والتوزيع الأردنية، موسوعة أخرى مناظرة لتلك التي قدمها الدكتور عبدالله إبراهيم صاحب “موسوعة السرد العربي” بأجزائها المتعددة، بل تقيم حوارا مع الموسوعة الأولى، وتقدم عنها معاينات ومباصرات، تبدأها بالسؤال عن مدى مشروعية وصف عمل ما بأنه موسوعي، وأيضا تسأل عن أحقية الناقد في جمع دراساته كلها معا تحت عنوان جامع، كما قد يفعل الشاعر في ديوانه، فالإبداع الشعري أو القصصي حر، لا يتطلب خيوطا أو ثيمات معينة تربط النصوص ببعضها البعض، على العكس من النص النقدي حتى لو توافر له الترابط الثيماتي لكنه يتطلب أيضا خيوطا تربطه بأساسات علمية وفلسفية.
يشغل الجواب الباب الأول من الكتاب وعنوانه “موسوعة السرد العربي ما لها وما عليها”، ويرد كل فصل من فصوله على أحد أجزاء موسوعة الدكتور عبدالله ابراهيم، مقدما معاينات نقدية ومراجعات تاريخية لما طرحته الموسوعة. فتأخذ على صاحبها رجوعه إلى نظرية الأنواع الأدبية، مما دفعه إلى تجاهل أنواع من الكتابة السردية عرفها الأدب العربي القديم، لأنها تتنافي فكريا مع توجهاته ذات الطابع البطريركي التي جعلته يبتعد عن ملامسة تابوهات السياسة والجنس والدين، مخالفا بذلك صفة الموسوعية التي وسم بها عمله، وهي السمة التي كانت تقتضي منه مقاربتها، ومن أنواعها المتخيل الديني للمعتقدات الطقسية الشعبية، والمتخيل الجنسي بتمثيلاته الإيروسية، والمتخيل التاريخي بمكاشفاته السرية لخفايا وخبايا السياسة.
كما تختلف معه في إرجاع تطور السرديات الجاهلية إلى التغير في الأنساق، وتذهب الكاتبة إلى أن صاحب الموسوعة لو اهتم بالجاحظ قدر اهتمامه بابن الجوزي لحقق اكتشافات هائلة للهامش
الثقافي العربي، ولأتاح لنا معرفة سبب تواصل المرويات السردية على الرغم من تصلب الموقف الديني تجاهها، وكيف أن القص بوصفه هامشا استطاع منافسة الشعر باعتباره مركزا، فلم تنقطع مسيرته عبر قرون، وترى أن القص يمثل حاجة إنسانية تزداد أهميتها بتقارب هويات البشر وتعقد متطلبات وجودهم، فضلا عن كونها متنفسا إبداعيا لا شعوريا، لذلك لم يتمكن المركز من محو فعالية الهامش الذي ظل مقاوما لمحاولات حرفه عن مساره ووظيفته في الإمتاع والمعرفة.
التشظي والنسوية
يبدأ الفصل المعنون بـ “التشظي بين الأدبية والثقافية” بالتأكيد على أن المتغيرات الثقافية عادة ما تجبر الناقد الأدبي على مواكبتها حتى لا يقع في دائرة التنميط، ويجد نفسه في تحد لإثبات قدرته على تطوير نفسه وأدواته المنهجية، وهنا تأخذ على موسوعة عبدالله ابراهيم عدم وضوح موقفها من مسألة النسوية وتنازعها مع الأبوية، فالموسوعة تأثرت بالنظرة الأبوية لدى صاحبها وهو ما جعلها تنسى تماما أن هناك فكراً نسوياً. فقد اعتمد عبدالله ابراهيم على كتابات غربية عن الأنوثة والنسوية، وكان الأنسب لموسوعته أن يضع خطوطا نقدية وثقافية تصل بين الأبوية والنسوية من جهة، وتفصل بين الأنوثة والنسوية من جهة أخرى، وهي ترى أن نظرية الأنوثة انتهت سريعا بسبب خضوعها لنزعات التفرد والهيمنة، على العكس من نظرية النسوية التي استطاعت أن تجدد نفسها وتستمر.
وترى هناوي كذلك أن العنوان الذي اختاره ابراهيم لفصله “الفكر النسوي نقد من الداخل” يؤكد تعمده لإحلال الفكر النسوي محل الأدب النسوي ونقده، وتشير كذلك إلى أن تحفظات الباحث في هذا الإطار وصلت إلى ما يمكن اعتباره مناهضة نقدية انطلاقاً من منزع مؤسلب يرى أن “كل ما تدعو له النسويات مجرد فذلكة فكرية وحذلقة كتابية، وديكور يروج لعولمة مغلفة بالتصنع، ومرأى يتمظهر بالشطح واللعب واللامبالاة”. وهو ما يكشف رسوخاً ثقافياً لدى الباحث، أساسه التراتبية الهرمية، مع نفي التعددية عن المؤنث، بإقرار مواضعات رسمتها المنظومة الأبوية.
وترى هناوي أن هذا الموقف لا يخص عبدالله ابراهيم بمفرده، بل هو موقف كل النقاد الذكوريين الذين يرون النسوية كيانا هشا وشبحيا. ولذلك فهو حينما يلمس مركزية الصوت المؤنث في السرد فإنه يفسره بالاضطراب في الهوية، وهو في تناوله للروايات النسوية يتهمها بالنرجسية المتأتية من مراهقة سردية.
ويقول “البنية النرجسية التي تجتاح الكتابة النسوية تحمل أيديولوجيا أنثوية تطفو فوق الأحداث، وتعيق حركة السرد، وهي تحيل مباشرة إلى الكاتبات وليس إلى الشخصيات الروائية”، وتخلص هناوي إلى أن أغلب الروايات التي اختارها الناقد ليست نسوية، لأنها تعبر عن رؤية واقعية تتعامل بنمطية مع الجسد، وأن قوله بأن العلاقة بين الجسد والكتابة تنتج خطابا ثابتا، يعبر عن عدم اعترافه بأن الأنوثة هي أهم تجليات النسوية العربية.
سد الثغرات
إذا كان الباب الأول من الكتاب قد أثار عددا من القضايا حول ما قدمه الدكتور عبدالله ابراهيم في موسوعته للسرد العربي، ويجيء الباب الثاني ليسد ما رأته الدكتورة نادية هناوي من نواقص وثغرات في بناء الموسوعة، وقد حددتها في ستة أنماطٍ مهمةٍ في السَّرد العربيّ، غفلتْ عنها الموسوعة، وترتبط بالقصِّ القرآنيِّ والدينيِّ والمثيولوجيِّ والمقامةِ والأدبِ الشعبيِّ والأساطيرِ.
فتذهب إلى أن قص ما قبل الإسلام كان خرافيا يوظف التخييل في إطار لا معقول عادة ما يكون أسطوريا، فإن قص ما بعد الإسلام كان احتماليا يدمج التخييلي بالتاريخي متجاوزا الوظيفة التطابقية إلى الوظيفة الشعرية مع البعد عن اللامعقولية، فقد كان التخييل أداة تعزز مصداقية القص. كما استعمل الفعل السردي في توثيق أحداث السيرة النبوية، وتضفي الكاتبة صفة الملحمية على السرد التاريخي منها الفجائعية والمبدئية والجماعية وعدم الاعتيادية فضلا عن القداسة، هذه التوليفة تمثلت في كتاب “مقتل الحسين” بوصفه نصا تاريخيا لواقعة تراجيدية، وتذهب الكاتبة إلى أن أبومخنف في كتابه هذا كان سباقا إلى استخدام تقنية وجهة النظر التي عرفها السرد في القرن العشرين، منهيا هيمنة الصوت الأحادي للسارد.