نورالدين السيد الثلثي
لم تنطلق عملية بناء الدولة الليبية بإعلان الاستقلال في 24 ديسمبر 1951، بل بدأت قبل ذلك بتسع سنوات فصلت بين حقبة الاستعمار وإعلان الاستقلال. انصبّت الدراسة والتسجيل لأحداث تلك السنوات التسع على جوانبها السياسية الوطنية والدولية؛ والثقافية والفنية والرياضية بدرجة أقل. ما لم يأخذ حقّه من الدّراسة والتسجيل كان ما شهدته تلك الفترة من وضع الأساس لبناء الدولة الجديدة ومؤسساتها.
دامت حِقبة الاستعمار الإيطالي حوالي اثنين وثلاثين عاماً انتهت بهزيمة إيطاليا ودخول الجيش الثامن البريطاني لطرابلس في يناير 1943. وُضعت برقة وطرابلس إثرَ ذلك تحت الإدارة البريطانية، وفزان تحت الإدارة الفرنسية. تحوّلت برقة سنة 1949 من الإدارة البريطانية إلى الاستقلال الذاتي، وتمّ إعلان الاستقلال التام للمملكة الليبية المتحدة بأقاليمها الثلاثة سنة 1951. في غيابٍ تامٍّ لمواردَ طبيعية معلومة، واقتصادٍ اقتصر على الرعي وزراعةٍ قامت على رقعة ضيقة من الأراضي الصالحة وأمطارٍ شحيحة، كانت ليبيا أفقر بلدان أفريقيا بدخل سنوي للفرد بلغ سنة 1950 حوالي أربعين دولارا، وشعبٍ تعداده961 ألف نسمة (1).
في مجال التعليم، الركيزةِ الأساسية الأولى لكل تقدّمٍ وتطوّر، تركت إيطاليا وراءها نسبة أُمِّـيّة بلغت سنة 1950 ما بين 90 و95% (2). في دراسةٍ لـ ماتيو بريتيللي عن التعليم في المستعمرات الإيطالية ما بين الحربين، يقول فيما يخص التعليم في ليبيا:
– لا يوجد في ليبيا أكثر من 120 طالب عربي في مدرسة ثانوية وحيدة، في طرابلس.
– أُلغِي التعليم الثانوي لليبيين سنة 1924، حيث إن الساسة والخبراء الإيطاليين في المسائل الكولونيالية رأوْا أن ذلك من شأنه أن يُشعِل فتيل التمرد والتخريب ضد الإيطاليين.
– كان المدير الإيطالي للمدارس في طرابلس سنة 1922 يعتقد أن التعليم في المستعمرات مسألةٌ ’سياسية‘ يجب حلّها بالإخضاع التام للمستعمَرين من قبل المستعمِرين (3).
في ظلّ تلك المُعطيات، انطلقت مرحلة النضال الوطني لتحقيق استقلال البلاد ووحدتها، ووضعِ اللبنات الأولى لمؤسسات الدولة المرجوّة. كيف كانت تلك المرحلة الأولى من بناء الدولة، وماذا كانت أدواتها وإنجازاتها، أسئلةٌ لم تُعط الاهتمام الذي تستحقه من الدراسة والتسجيل.
اتخذ النضال الوطني في أقاليم برقة وطرابلس وفزان في تلك المرحلة، مساراتٍ متوازيةً مختلفةً باختلاف المعطيات الاقتصادية والاجتماعية ورُؤَى النّخب فيها، وكانت كذلك في بناء اللبنات الأولى لمؤسسات الدولة في تلك السنوات السابقة لإعلان الاستقلال.
شكّلت تلك الفترة حيّزاً هامّاً من كتاب “برقة، الدولة العربية الثامنة” لـ نيقولا زيادة، المؤرّخِ والشاهدِ من خلال عمله بإدارة معارف برقة وإقامته في بنغازي وقتها. من كتابه نستظهر ملامح تلك الخطوات الأولى لبناء مؤسسات الدولة المقبلة في واحدٍ من أقاليم الوطن الثلاثة، برقة (4).
لم يكن عدد سكان برقة في ذلك الوقت يتجاوز ثلث مليون نسمة، في حين تمتدّ مساحتها إلى حوالي 330,000 ميل مربع (855,000 كيلومتر مربع). مرّ الإقليم بمرحلتي الإدارة البريطانية من 1943 إلى 1949، ومن ثمّ مرحلة إمارة برقة من يونيو 1949 إلى ديسمبر 1951، استُحدِث خلالهما تنظيمٌ إداري للإقليم ضمّ ثلاث متصرفيات (بنغازي والجبل الأخضر ودرنة) رأسها متصرّفون بريطانيون، حلّ محلّهم ليبيون بعد وقت قصير. أُلغيت المحاكم العسكرية البريطانية وأنشِئت محاكم ليبية. أنشئت قوة دفاع برقة لحفظ الأمن كان قوامها حوالي 900 فرد سنة 1949. أنشئت أيضاً دوائر للجمارك والبريد والأشغال العامة والمعارف والصحة. تولت الإدارة البريطانية قيادة وتنظيم العمل بالدوائر الرسمية، والتحق بتلك الدوائر ليبيون تدرّبوا واكتسبوا الخبرة من خلال العمل، فكانوا نواة الوظيفة العامة في مؤسسات الدولة المقبلة. كانت موارد الإقليم ضئيلة جداً، وهو ما يظهر من ميزانيته التي لم تتجاوز لسنة 1948 مبلغ 2,145,616 جنيها استرلينياً، ساهمت فيها الحكومة البريطانية بهِبةٍ مقدارها 412,300 جنيه إسترليني. لم تكن أهداف بريطانيا تجاه الليبيين أهدافاً خيريةً بطبيعة الحال، فقد كانت نابعة من مصالحها وأهدافها في ذلك الوقت التي كان من بينها وضع برقة تحت الحماية البريطانية وإدارتها في مشهدٍ شبيه بشرق الأردن بعد الحرب العالمية الأولى، وإقامة تسهيلات استراتيجية فيها تحسّباً لاحتمال أن تضطر لترك تسهيلاتها في مصر (5).
كان في عموم برقة مع نهاية الحقبة الإيطالية أكثر بقليل من ثلاثين مدرسة، مدة التعليم فيها خمس سنوات، اقتصر تعليم اللغة العربية فيها على السنوات الثلاثة الأولى. كان أكبر الإنجازات في تلك الفترة هو ما تحقق في مجال التعليم، إذ أنشِئت 54 مدرسة ابتدائية منها ثلاث للبنات ومدرستان ثانويتان ومعهدٌ للمعلمين ومدرسة للصنائع، وأُعيد فتح اثنتي عشرة من الزوايا السنوسية. ساهمت مصر مساهمة كبيرة في الدفع بالعملية التعليمية بتوفير أكثر من خمسين مدرساً ومدرّسة. أوفِد أكثر من خمسين طالبا للدراسة في الخارج أكثرهم إلى مصر، ونفرٌ إلى بريطانيا وفرنسا.
تمّت خلال السنوات التسع السابقة لإعلان الاستقلال إنجازاتٌ كبيرة في ميادين الإدارة والتنظيم والتدريب والتعليم والخدمات، رغم النقص الكبير في التعليم والخبرة والموارد والإمكانيات المادية. وفّرت تلك الإنجازات الأساس الذي انطلق منه بناء الدولة الليبية يوم أُعلن استقلالها. لقد رحل المؤسسون الأوائل، وتبقى شهاداتٌ تُروى ووثائق حبيسة أو مهمَلة بين الجدران يجدر أن تُوثّق وتُسجَّل بشكل ممنهج يحافظ على ما هي جديرة به من مكانة بارزة في تلك المرحلة المفصلية من تاريخ البلاد.
في زمنٍ مضى قبل سبعة عقود، تغلّبت الإرادة الوطنية والصدق والنزاهة على النقص الشديد في كلّ شيء. تمّ بناء أسس الدولة ومن بعد ذلك انفرطت مؤسساتها، ونشهد بأم العين الفشل الذريع في إعادة بنائها، رغم الإمكانيات المادية والبشرية الأعظم بما لا يُقارن بما توفّر لذلك الجيل.
“ولَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ والْأنفُسِ والثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين.” نجح الأجداد، وفشل الأحفاد رغم السّعة في الأموال والأنفس والثمرات.
أستذكر فأدرك أننا قومٌ تغيّروا فغيّر الله ما بهم. وتلك قصةٌ أخرى.
__________________________________________________
1) نورالدين السيد الثلثي، جمعية عمر المختار، وثائق مركز درنة، دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2016، ص 17، 18.
2) المرجع السابق.
3) المرجع السابق.
4) نقولا زياده، برقة الدولة العربية الثامنة، دار العلم للملايين، بيروت، 1950، ص 122-142.
5) ريتشارد سنج، Operation Idriss، مقتبس في المرجع (1) أعلاه، ص 68، 69.