السجن
المقالة

طبيعة السجن كمكان

توجد في الحياة أماكن عارضة. أماكن “عبور”، تمكن تسميتها، كمحطات القطارات والحافلات والطائرات والسفن والفنادق، التي غالبا ما يمر بها الإنسان في حياته بهذا القدر أو ذاك. وتوجد أيضا ما تمكن تسميته بالأماكن” الاستثنائية” في الحياة. مثل السجون ومعسكرات الاعتقال واللجوء والمستشفيات.

إلا أن احتمال دخول المستشفى وارد لأي منا، ولكن احتمال دخول السجن، أو المعتقل، أو معسكر اللجوء يظل، غالبا، غير وارد [هذا طبعا قبل” ثورات الربيع العربي”]. ويظل السجن، أو المعتقل، أكثر هذه الأماكن الأخيرة تميزا.

يشترك السجن مع أماكن العبور في كونه ليس مكانا معتادا لحياة الإنسان ولا يعد مجالا لحياة إنسانية مستقرة داخل شبكة تواصل اجتماعي عادي. لكنه يختلف عنها في كون مدة بقاء الفرد في هذه الأماكن،غالبا، معروف سلفا، ولو على نحو تقديري، بينما يكون مجهولا في حالة السجن( الكلام هنا يختص بسجناء الرأي وليس بسجناء الحق العام). كما أن أماكن العبور الأخرى يذهب الإنسان إليها بإرادته، وإن ليس برغبته أحيانا، وبتحضير مسبق، أما السجن فيؤخذ إليه غصبا وعلى حين غرة.

ورغم أنه في الأنظمة الاستبدادية يتوقع الكثيرون من أصحاب الآراء دخول السجن، إلا أن الكثيرين أيضا يفاجأون به. كما أن مدة البقاء في السجن تظل غير محددة في كثير من الأحيان. فقد يقبع الإنسان فيه سنوات دون محاكمة وقد يبقى سنوات أخرى بعد انقضاء مدة محكوميته وقد يحكم مدى الحياة ثم يصدر عفو عام أو محدود فيطلق سراحه بعد عدد من السنين أو حتى الشهور. وبذلك لا يعتبر السجن، بالنسبة إلى سجناء الرأي مكان إقامة دائما.

وهذه النقطة تحديدا، عدم اعتبار السجن مكان إقامة دائما بالنسبة إلى سجناء الرأي، تعد، في تقديري، منهج مقاومة يحول دون السجين واستبطان أو استدخال حالة السجن، لأن في هذا تدميرا لمعنوياته. وفي هذا السياق أود أن أشير إلى موقف زملائنا في السجن من حزب التحرير الإسلامي الذين كانوا، طيلة مدة بقائهم، يُصلُّون ما يعرف في مصطلحات الفقه الإسلامي بـ”صلاة القصر، أو الجمع” وهي صلاة المسافر والمحارب التي يتم فيها الاختصار في طول الصلاة.

وبغض النظر عن التأصيل الفقهي لهذه الممارسة والاجتهاد في تطبيقها على حالة السجن هنا، فإنني أعتبر هذا الموقف موقفا مقاوما لاستبطان السجن يرفض التسليم، رغم الإقامة فيه سنوات مديدات، بأنه مكان إقامة اعتيادي.

بمقارنة السجن مع المستشفى، كمكانين استثنائيين، يشترك المكانان في أن الإنسان يذهب إلى المستشفى، في كثير من الحالات، منقولا من قبل آخرين، مثلما هو الحال بالنسبة إلى السجن، وأن الذهاب إليهما أمر غير مرغوب، بل ومخيف. لكنهما يختلفان في كون المرء يؤخذ إلى المستشفى من أجل إنقاذ حياته وعلاج أمراضه، أما السجن فيؤخذ إليه عنوة بغاية تدمير حياته وإعطاب معنوياته.

ولكن يشترك السجن مع هذه الأماكن كلها في أن الحياة فيه تكون بين قوسين.. جملة اعتراضية، تمتد على مساحة مئات الصفحات أحيانا، لكنها تظل، مع ذلك، اعتراضية.

الحياة في السجن محدودة ومحصورة بين جدران، وكلما أوغل النظام السياسي في الاستبداد، كلما زاد إضناك حياة السجين. إن السجن، بالنسبة إلى سجين الرأي في الأنظمة الأكثر استبدادية، مكان معادٍ وقاسٍ يحاول السجين أن يجد فيه بعض الأوضاع الواقية جزئيا، كالشخص الذي ينكمش بجسده إلى أقصى حد للتقليل من إيذاء ما يتلقاه من ضربات.

وفي ظروف الحياة الشظفة هذه تزداد الضغوط على نفسية السجين وتدخل الحياة اليومية بين السجناء في تعقيدات شديدة تأخد، أحيانا، طابعا متوترا يتصاعد، في بعض الحالات، إلى وضع التأزم، بحيث يصبح الآخر يشكل عبئا باهظا على النفس، بدلا من أن يكون سندا للتصدي لعدوان السجن. يحدد ذلك الطبيعةُ الذهنية والنفسية لكل شخص وتوازنُ القوى بين المجموعات السجنية على الأرض.

ورغم أن الاتفاق الآيديولوجي لا يعود هو العنصر الحاسم في طبيعة العلاقات الإنسانية، إذ قد يكون شخص يعد خصما آيديولوجيا لي أسلس في التعامل اليومي وأقرب إليَّ إنسانيا، والعكس صحيح بالنسبة إلى شخص متفق معي آيديولوجيا، إلا أن الإطار الآيديولوجي يظل ناظما عاما.

 _________________

نشر بموقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

“الغرفة211” كتاب دوري يلم شمل الثقافة الليبية

المشرف العام

اليوم العالمي للغة العربية

المشرف العام

حتّى لا ينفرط عقد العهد

إبراهيم الكوني

اترك تعليق