مثل النار في الهشيم تنتشر قصص اختلاسات الوزراء وسرقات المدراء والمسؤولين في كل بقعة من العالم، ومهما كان اللص حريصا على إخفاء جريمته ومحترفا في ارتكابها يبقى مفضوحا لا محالة مهما راكم الزمانُ الوقتَ عليها وهيّأ للنسيان كل السبل.
في المقابل نسمع عن القصص التي يكون أبطالها مسؤولين في دول وحكومات تفصلنا عنها مسافات جغرافية وحضارية شاسعة، للوهلة الأولى لن نتخيل أن يكون أحد هؤلاء الأبطال من طينتنا السمراء، في وطنٍ لم نعتد أن يكون معظم مسؤوليه إلا لصوصا ومختلسين، لا يجيدون إلا تكديس الثروات في أرصدتهم ورمي بعض الملاليم في جيوبنا المثقوبة.
سمعنا عن مفاتيح رمزية لبعض المدن الكبيرة التي تمنحها لضيوفها المميزين، لكني حتى وقت قريب لم أكن أعرف شيئا عن مفاتيح بنغازي الذهبية، لأكتشف مع الذهب الذي صنعت منه المفاتيح معدنا آخر أنفس وأكثر وهجا وألقا لرجل من بنغازي، قُدّ من أمانة ونُبل، هو السيد حسن الطيب بن سعود.
يروي بن سعود تفاصيل هذه القصة التي تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي. قائلا إن بلدية بنغازي اشترت أوائل العام 1983 من إيطاليا ثلاثة مفاتيح تذكارية للمدينة لتكون هدايا لكبار زوار بنغازي على عادة بعض المدن في العالم، صنعت هذه المفاتيح من الذهب الأصفر عيار 21 ونُقِشت عليها الكتابة بالذهب الأبيض، وكان الواحد منها يزن حوالي 600 جرام، عندما وصلت هذه المفاتيح من إيطاليا استلمها مصرف ليبيا المركزي ليحفظها في خزائنه، لعدم الحاجة إليها في ذلك الوقت.
بعدها بأربع سنوات استلمها السيد حسن بن سعود بناء على تعليمات من الراحل “محمد بكّار” وبصفته رئيس قسم الميزانية والحسابات بالمرافق ومساعدا للمراقب المالي فيها، فاحتفظ بها في خزنة مكتبه حتى أُهدِيَ المفتاح الأول للرئيس الجزائري وقتها “الشاذلي بن جديد”، وكان المفتاح الثاني من نصيب الرئيس التونسي “زين العابدين بن علي”، فيما ظلّ المفتاح الثالث في خزنة السيد “بن سعود” وحيدا.
ألغِيَت البلديات مع بداية التسعينيات، وظهرت التقسيمات الإدارية المعروفة بـ”الكومونات”، فصارت لها صلاحيات واسعة وأعدّت لها ملاكات وظيفية حسب عدد السكان، ولم تمنح أي صلاحيات للتصرف في المال العام، قال السيد بن سعود إن أحدا لم يسأله عن المفتاح الثالث، حتى أن لجنة حصر واستلام أصول بلدية بنغازي المنحلّة لم تذكر في محاضرها شيئا عن ذلك.
مرّت السنوات، ولم تعد الكومونات ترضي فكر العقيد، وبحلول العام 1999 تشكلت تقسيمات إدارية لا تختلف كثيرا عن البلديات، لكنها بنكهة “جماهيرية” تليق بفكر ثالث ونظرية ثالثة هي “الشعبيات”، حينها طلب السيد حسن مقابلة أمين الشعبية في ذلك الوقت “مفتاح بوكر”، أخبره عن المفاتيح الثلاثة ومصير كل واحد منها، فطلب منه “بوكر” بعد أن شكره وأثنى على أمانته أن يسلم المفتاح الذي بقي في عهدته إلى سكرتاريا مكتبه.
فعل السيد “بن سعود”، لكن شعورا يشبه الندم على تصرف قد يكون غذّاه استعجال تسرّب إلى نفسه، فأطلع صديقيه الأستاذ “محمد فنّوش” والمهندس “السنوسي حمّاد” على ذلك الشعور الذي أرجعه إلى تسليمه المفتاح الثمين دون أي سند بالاستلام فقد منعه الحرج من طلب ذلك من أعلى مسؤول في المدينة.
قال السيد حسن إن صديقيه آزراه وهوّنا عليه ذاك الشعور، حتى أن “فنّوش” قال له “يكفي أن الله شاهد على ما فعلت”، غير أن الرجل بات ليلته تلك وقد أزاح عن كاهله حملا ثقيلا أرهقه لسنوات، لكن خدشا من ندم أصاب تلك الراحة التي طالما سعى إليها.
في صباح اليوم التالي تبدّد كل شيء مع أولى خطوات السيد بن سعود في مقر عمله في “الشعبية”، فأمطره الجميع بوابل من الترحيب والاحتفاء لم يعهده، وعبارات تهنئة جعلته يفهم أن قصة المفتاح قد طرقت مسامعهم منذ الصباح، كيف لا وقد حملت ذلك الصفحة الأخيرة من جريدة “أخبار المدينة” فأشادت بأمانته وأوصلت ما قام به للجميع دون حول منه أو قوة.
يقول السيد حسن إنه أكمل يومه
ذاك في استقبال المكالمات الهاتفية من الزملاء والأصدقاء الذين سمعوا بما
قام به، ويذكر جيدا مكالمة صديقه “محمد فنوش” الذي قال له فيها: كنت تريد
أن يشهد أحد أو شيء على تسليمك الأمانة، فكانت بنغازي كلها شاهدة على ذلك.
“إن تصرفي هذا نابع من القاعدة في معتقداتنا ومعاملاتنا، وما عداها يظل هو
الاستثناء”، هذا ما قاله السيد حسن لتبرير أو لتوضيح طبيعة ما قام به، فهل
ما نراه اليوم من جنون في جمع المال بكل الطرق ومن سعي محموم للثراء على
حساب آلام وحقوق الليبيين البسطاء هو حقا استثناء؟
إن الصورة القاتمة التي لا يظهر منها إلا صور اليخوت الفارهة على شواطئ إسبانيا والمزارع الشاسعة في بيلاروسيا والمباني الشاهقة في مالطا تقول إنك أنت الاستثناء يا “بن سعود”، ويبدو أننا سننتظر طويلا ليأتي من يشبهونك فنسلمهم زمام حياتنا ومستقبل أطفالنا الذي ضاعت مفاتيحه مع المفتاح الثالث.