النقد

الشاعر جلال عثمان يحتفل بالموت

 

هل يمكن لإنسان أن يحتفل بالموت؟ ويوجه دعوة لحضور حفلة موت ؟

فالعلاقة مع الموت هي علاقة تصادمية في جميع أشكالها التعبيرية، حتى أن النص القرآني وصف الموت بالمصيبة، الأمر الذي لا يدعو للإحتفال بظهورها على مسرح الحياة سواء بالنسبة للإنسان الفرد أو المجتمعات البشرية عامة.

إلا أن الشعر دائماً يحاول مشاكسة الواقع، ورمي أحجار عديدة في برك الحياة الراكدة من أجل بعثها مجدداً لعلها تحيا بصورة أفضل مما كانت عليه. وهذا هو الشعر الحقيقي الذي يستفز وجدان المتلقي. لأن الشعر لا يكف عن البحث عن أي أمل بسيط، ولو كان مجرد وميض خافت يلوح من بعيد، لينسج منه خيوطاً تتعلق بها الأحلام وتتغذى الأفكار لتولد وتنمو وتترعرع في بيئة الشعر الجميلة.

إن للشعر عالمه الخاص، وطقوسه المميزة التي كثيراً ما تحمل الغرابة والتعجب. ومن بين هذه الغرائب والعجائب ما يعرضه الشاعر جلال عثمان عنواناً لغلاف ديوانه (حفلة موت)(1) الذي صدر حديثاً عن مركز إينارو للخدمات الإعلامية. وفي محاولة منه لزيادة ورفع درجة التوتر لدى القاريء يختار الشاعر عنوانا للمقدمة معاكساً ومفاجئاً داخل صفحات الديوان (حفلة حياة) والتي يبين فيها أنه لم يطرح نفسه شاعراً في الوسط الشعري الليبي، معللا ذلك بتساؤله التعجبي (فما الجديد الذي يمكن تقديمه، ولم يترك الشعراء شيئاً يسترقع إلا واسترقعوه منذ متردم عنترة ما بالك الآن؟!)(2).

وما بين تناقضات (حفلة حياة) و(حفلة موت) تكتشف ذكاء جلال عثمان حين اختار أبرز شاعر ليبي تغنى بالشعر المحكي وعشق الوطن وتعذب به، حيث دأب طوال حوالي خمسة عقود من الزمن على رسم البسمة بشعره الغنائي الرقيق في عيون الآخرين، بينما عيونه غارقة بدموع الآلم، وأوجاع الآسى على واقع الحرف وضمير الكلمة وتنكر الناس، ومرارة الحياة وظلم الوطن. اختار جلال عثمان لتقديم نصوصه الليبية الشاعر الغنائي والصحفي والإذاعي الرقيق أحمد الحريري فكتب يقول (… حين يكون الديوان مرصعاً باللهجة الليبية المخملية النابضة بالمودة والمحبة، فإن أمر تقديمه سيبدو للمرء مغامرة متكاملة، لا يعلم بنتائجها إلا الله الرحيم، فالغوص في بحور المخمل دون دراية متقنة بالعوم مغامرة…)(3). ويواصل الحريري تعليقه فيقول (… ورغم أن قصائد جلال عثمان التي ضمها ديوانه “حفلة موت” غاية في البساطة، وشقاوة أطفال الزاوية، وهي تحاكي نقاء الطفولة، إلا أن وراءها شاعر يعرف بكامل الدقة من أين تؤكل حبة القلب، وهذا بنحو دقيق ما فعلته قصائد الديوان بقلبي وأنا موغل في السعادة … )(4) ويتابع الحريري (… هو شاعر مغامر، يملأ جرابه بالشعر المختوم بالرونق، لينثره على دروبنا، لنتعلم –فيما بعد- كيف نصطاد محار اللؤلؤ…)(5) وفي ختام تقديمه يخاطب الشاعر الكبير أحمد الحريري صاحب الديوان بقوله (.. أنت شاعر .. والشاعر مقاتل يغني.. ويظل يغني حتى عندما تكون أبواب المقاهي موصدة وأنا طفل عجوز وجهي يغطيه العرق، لأنني لا أجيد الكلام. لك كل الحب)(6).

تنقلنا صفحات الديوان بعد ذلك لقراءة أولى يقدمها شاعر آخر هو سالم العالم حاول من خلالها ممارسة نوع من النقد التحليلي لنصوص وقصائد الديوان، إلا أنه إجمالاً يقول (… يجعلنا ديوان “حفلة موت” نشعر أن جلال عثمان لا يحاول طرح نفسه علينا كشاعر منغلق على ذاته، تقوده أناه وآلامه الخاصة بعيداً عن مجتمعه بل على العكس تماماً يظهر لنا جلال من خلال ديوانه كنافذة مشرعة على الواقع بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات تتلمس نقاط الخلل ومواقع الألم بحساسية مفرطة وبسخرية واعية …)(7).

أهدى الشاعر جلال عثمان ديوانه (لليبيا وبس ..)(8) وهو بذلك يعبر عن عظمة حبه الذي يكنه أو يحمله لليبيا الوطن دون غيرها، ويوجه نصوصه الليبية لكل شرائح المجتمع الليبي وكامل أطياف المشهد الثقافي. وقد تضمن الديوان الذي يقع في مائة وأربعة وأربعين صفحة من الحجم الصغير سبعة وعشرين نصاً بالعامية الليبية الدارجة، توزعت أمكنة ولادتها بين فضاءات الزاوية وطرابلس والقاهرة والمملكة المتحدة وتواصلت إشعاعاتها التعبيرية طوال حوالي عقدين من الزمن وتحديداً منذ سنة 1986 وحتى 2007 تنقل لنا أحاسيس ومشاعر زاخرة بالحب عبر أسلوب رقيق يطوّف بنا في سماوات الوجدان العام والخاص خلال مسيرة تتناغم فيها أوتار الموسيقى أحياناً وتتهادى وتصخب وتتعالى أحايين أخرى.

لم يراع الشاعر ترتيب نصوصه الليبية في (حفلة موت) فجاءت مبعثرة في تسلسلها التاريخي بين القديم والحديث، وتباينت مواضيعها بين خصوصية العلاقات الوجدانية التي تربطه بالحبيبة والأصدقاء الذين خص منهم الشهيد خليفة محمد طالب بنص (يوم الرحيل)(9) وأهدى الشاعر الكبير أحمد الحريري نص (هاذي حياتي)(10)، والمعالم المكانية المتعددة التي حاول استنطاقها أو مخاطبتها، كما امتدت النصوص بشكل أوسع لتشمل معايشته وموقفه من قضايا تتجاوز الشأن الخاص إلى العام لتواكب مثلاً قضية أطفال الأيدز في ليبيا وغيرها. كما ضمن ديوانه قصيدة (يا مركبي)(11) وهي الأغنية الحائزة على القلادة الفضية لمهرجان الثقافة الجماهيرية الأول سنة 1992. ويعترف الشاعر بذلك فيقول (…فالمجموعة لا تحمل ذات الإيقاع ولا ذات الرؤيا لأنها كتبت في مراحل مختلفة، كما ضمت ألواناً مختلفة من ألوان الكتابة هي: الغنائي، والشعبي، والمحكي، وأتمنى أن تصمد لأطول فترة ممكنة في ذاكرة المشهد الشعري الليبي فيكون إصدارها حفلة حياة لا حفلة موت …)(12).

ورد في الديوان بعض النصوص بلا تواريخ ولا أماكن ولادتها مثل (مللني حب)(13) و(تشم الورد)(14) كما أن نص (مرة معلمتي)(15) الذي قدمه الشاعر كأغنية للأطفال يبين أن جلال عثمان يحاول أن يجرب كل أشكال الإبداع، وفي اعتقادي أن ذلك قد يشتت ملكة إبداعه ويضعف مضمون نصوصه، والأولى به أن يركز على شكل تعبيري معين يعمل على تطوير أدواته الفنية والتخصص فيه، فالمشهد الأدبي والثقافي في بلادنا في حاجة ماسة إلى المتخصصين في كل المجالات الإبداعية.

كل النصوص ولدت في الزاوية وطرابلس، ماعدا نصين فقط ولدا خارج ليبيا وهما (شن تحكي)(16) الذي كتبه الشاعر في القاهرة، ونص (هاذي حياتي) الذي كتبه جلال عثمان في المملكة المتحدة وأهداه للشاعر الكبير أحمد الحريري. ولا نجد في هاذين النصين ما يوحي أو يشير إلى تأثر الشاعر بأجواء المكان وإنعكاس صوره على نصه الشعري، فمثلاً لم نشم هواء القاهرة أو نحس ضجيج زحامها في (شن تحكي)، ولم نلامس جماليات الريف الإنجليزي أو بعضاً من أشعار إليوت أو شيكسبير في (هاذي حياتي). وهذا بالطبع ليس عيباً أو تقليلاً أو انتقاصاً من لغة النص أو مضمونه بقدر ما هو محاولة لمعرفة درجة تأثير فضاءات المكان الذي كتب فيه جلال عثمان نصوصه الشعرية، ومدى تأثره كإنسان شاعر مرهف الحس بأجواء الأمكنة التي يتخلق فيها نصه الإبداعي.

ويظل الايقاع عنصراً مهماً في كتابة وقراءة النص الشعري، فضبطه والالتزام به شرط من شروط الوزن الشعري. والأذن الموسيقية لا تقبل الإخلال بموازين الشعر، ولا يمكن لها أن تتذوقه ما لم يكن موزوناً. في هذا الجانب ظهرت نصوص الشاعر جلال عثمان زاخرة بالموسيقى الحسية الرقيقة والرنين القوي، والمضمون الهادف والملتزم بالأخلاق والتربية الإسلامية، حيث برزت مواعظه ونصائحه مكللة بالعبارة الدينية الظاهرة أو الباطنة، والدعوة المباشرة أو الخفية للإلتزام بها، مثل:

(زين المرا في الدين

وف طاعة الولدين

ف كلمة لما تقولها

تبري المجروحين

وتفك حتى الدين)(17)

ويواصل نصائحه في قصيدة أخرى موظفاً النص القرآني الذي نصت به الآية (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون)(18) بشكل واضح:

(ما تجرح غيرك بالسية

خلي الناس تعيش هنية

عمل الخير بعشرة زيه

والحسنة ما ليها مثيل

ما تنسى حق الولدين

والسنة وفروض الدين

راهو وقت الساعة تحين

ما ينفع غير كل جميل)(19)

وبشكل مطمئن يؤكد أنه في رعاية الله وتحت حمايته طالما يمارس ما لا يغضبه ويداوم على نيل رضاه من أجل تحقيق الأمنيات المتبادلة بين الأحبة:

(نسيروا معانا الله

ما دامنا في رضاه

نصون الهوا ونرعاه

ونهواك زي ما هويتني)(20)

ويعبر عن حسن نواياه ومقصده تجاه محبوبته ويبين لها أن سعيه إليها لا يتعارض مع شرع الله :

(قصدت الله نوصل بالحلال

وما لي غيرك قصة ورأس مال)(21)

أما قصيدته (عالم دايخ)(22) التي يهديها لأطفال ليبيا ضحايا الأيدز تبرز مفهوم الشاعر المتعمق والواعي لسياسات العالم المعاصر، وما يدور فيه من تغييب للفكر والعقل الإنساني، وتقنين لأوجه الظلم الغربي ضد الأمة العربية الذي يمارسه الغرب بنفس الأسلوب ولكن بصور متعددة ومتلونة حسب كل مرحلة زمنية، ولكن جميعها ذات هدف واحد لا يتبدل عبر تعاقب الأجيال، وهو قهر الإنسان العربي والعمل على تدمير الأمة الإسلامية.

(هو هو غير أطّور

ف أساليب الاحتقار

ف أساليب الاستعمار

وبدل الإبادة الوقتية

بدا يتبع في موضة جديدة

مرة

ايسميها قرار

ومرة

ايسميها حصار)(23)

لا يمكن أن نختلف على أن الصورة الشعرية عند الشاعر جلال عثمان في ديوانه (حفلة موت) حاضرة وواضحة المعالم والخصائص الفنية، ومليئة بالتعبيرات والصور البلاغية الرقيقة، كما أنها متضمنة معاني إنسانية وتربوية لا يمكن أن تغيب عن حياتنا أو ممارساتنا اليومية. بالإضافة إلى إن نصوص “حفلة موت” زاخرة بالتراث والتاريخ، وتتمثل فيها أسماء الأشخاص والأمكنة بكل دفء لتعمل جميعها للرفع من قيمة النص التعبيرية وليس لمجرد السكن بلا جدوى. إن الديوان يحمل الكثير من الشعر والمتعة والنصيحة والأحاسيس الجميلة، أما الشاعر الرقيق فهو كما وصفه شاعرنا القدير أحمد الحريري:

(أنت تشبه نجم سهيل

يهدى الغربا … عبر الليل

والغرابا … بعدك يرتاحوا

وأنت تسهر طول الليل)(24)

 __________________________________

(1) جلال عثمان، حفلة موت، منشورات مركز إينارو للخدمات الإعلامية، الطبعة الأولى، 2008

(2) المصدر السابق نفسه، ص 9

(3) المصدر السابق نفسه، ص 11

(4)  المصدر السابق نفسه، ص 11

(5) المصدر السابق نفسه، ص 12

(6) المصدر السابق نفسه، ص 13

(7) المصدر السابق نفسه، ص 16

(8) المصدر السابق نفسه، ص 7

(9)  المصدر السابق نفسه، ص 103

(10) المصدر السابق نفسه، ص 41

(11) المصدر السابق نفسه، ص 121

(12) المصدر السابق نفسه، ص 9

(13) المصدر السابق نفسه، ص 23

(14) المصدر السابق نفسه، ص 27

(15) المصدر السابق نفسه، ص 131

(16) المصدر السابق نفسه، ص 47

(17) زين المرا، المصدر السابق نفسه، ص 65

(18)  سورة الأنعام، الآية 161

(19) مشوار طويل، المصدر السابق نفسه، ص 115

(20)  يا مركبي، المصدر السابق نفسه، ص 126

(21)  قصدت الله، المصدر السابق نفسه، ص 99

(22) المصدر السابق نفسه، ص 71

(23)  عالم دايخ، المصدر السابق نفسه، ص 74

(24) المصدر السابق نفسه، ص 13

مقالات ذات علاقة

رواية نهارات لندنية.. بداية متأخرة وسيرة ذاتية غير معلنة

رأفت بالخير

العجائبية وأدب البحر.. قراءة فى رواية ” خالتى غزالة ” لأحمد الفقيه

المشرف العام

في (صراخ الطابق السفلي) للدكتورة فاطمة الحاجي

مريم سلامة

اترك تعليق