الكِبر.! هذه الآفة التي لا دواء ولا حيلة معها، أو هذا الطريق البائد الذي لا يعرف حكمة منه سوى أنه يمشي بهم نحو هلاكهم.. طريق موغل في البياد وليس على جانبيه استراحات، ولن يمنح عابريه فرصة العودة إن هم أرادوا ذلك، بل يجبرهم على المضي معه يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام حتى يرميهم في حفرة القبر.
هكذا خيل إليه وهو يزور حيهم القديم الذي عاش فيه حتى مطلع شبابه، كان مسجد الحي يتربع عند مدخله الشرقي ويقيم ذراع مئذنته عالياً كأنه يدعوا الجميع له، فمال نحوه ودخله لا ليلبي دعوة ذراعه القائم ولا رغبة في الصلاة تحته، لكنه يود فقط زيارة ذلك الماضي من جديد، يوم كانوا جميعاً في بداية الطريق.. خلع حذاءه خارج الباب وتسلل بهدوء وخشوع كما يفعل الجميع، وتمتم كما يتمتم الجميع وهم داخلون، ووقف في اتجاه القبلة ليصلي ركعتين تحية لمسجد أبيه يوم كان يؤم المصلين فيه، فكبر وقرأ وركع وسجد وسبح وسلم بطريقة آلية، إذ لم يكن قلبه حاضراً مع الصلاة بل كان مع صورة أبيه الماثلة أمامه كبيرة في المحراب، جال بصره على وجوه وملامح أولئك المصلين الذين كانوا معه صغاراً يوماً ما، يا سبحان الله.! كأن داء عضالاً سكن تجاويفهم من الداخل وصار يمصهم مصاً، أو يعصر قطرات الحياة منهم قطرة قطرة، بحث عنهم وفتش بينهم وفيهم، سأل مَن كان عن يمينه أليس أنت فلان.؟! قال نعم، وهذان اللذان عن يمينك أليس هما فلان وفلان.؟! قال نعم نعم، وهذا الذي في الأمام أليس هو فلان.؟! أيضاً قال نعم.
خرج من المسجد ويده تتحسس وجهه، أو تتحسس أثار هذا الداء على وجهه هو أيضاً، وخطاه يسحبنه إلى داخل الحي، لقد طالت هذه الآفة كل شيء.. كل الحي.. جدرانه ونوافذه وأبوابه ومَن يدخل ويخرج منها وكل شيء، حتى الهواء ليس ذات الهواء ورائحته وخفته يوم كان يدخل ويخرج من خياشيمهم الصغيرة دون أن يراه أو يسمعه أحد، والشمس ليست ذات الشمس ولونها يوم كانت تغمرهم فتدفئهم حيناً وتحرقهم حيناً آخر، والسماء في عينيه ليست ذات السماء البعيدة التي كانت في خيالهم قبة كبيرة يسكنها الله، والتراب والأصوات من وراء الجدران ورائحة الأطعمة بل ورائحة الأزقة التي تركها هنا.
كانت يداه خلف ظهره وقدماه تتعاقبان بهدوء، ورأسه وبصره يجولان في الأرجاء، كأنهما يبحثان عن شيء ضيعاه هنا قبل سنين.. شيء خلفاه هنا يضج بالحيوية والحياة.. شيء كل همه الساعة التي هو فيها، كانت خطاه تتحرك دون أن يدري كأن شيئاً خفياً يقودها، والذكريات تتحرك هي الأخرى أمامه دون أمر منه، فتجري هنا وهنا كما عهدها، وتناديه من هنا فيلتفت لها وتجذبه من هنا فيدير لها وجهه، وتلعب أمام قدميه فيقف حيناً يشاهدها وتدعوه فيتقدم نحوها، وتغني له” ناظم الغزالي وفيروز وعلي الشعلية والدوكالي ومن في حكمهم”.
ولم يفق من هذا الماضي أو لم يكن يتمنى أن يفيق لولا أن اصطدم به طفلان يركضان خلفه، حينها أدرك يقف على مشارف الحي من الجهة الغربية، وأمامه امتد حي آخر جديد ولد وحبى وخطى وخرج من هنا ليقيم حياة وواقعاً وغداً يخصه، وسيلد هو الآخر يوماً ما حياً جديداً سيحبو ويخطو ويخرج ليقيم حياة وواقعاً وغداً يخصه، وسيلد الحي حياً والحي حياً، ولكن هذا لن يعفيهم من اصطحاب هذا الداء أو هذه الآفة معهم، ولن يعفيهم من الاستسلام لها والتعامل معها كأنها قدر محتوم عليهم شاءوا أم أبوا، ولن يعفيهم من المضي في طريقها الطويل الذي تزداد مشاكله وبياده كلما توغل صاحبه أكثر.. طريق مليء بالمطبات والحفر وحواجز التفتيش وغرف العناية وأباري القوت والفولترين والروماتيزيوم والبورستاتة و..و.. والزوجة وموتها، وزيارتهم المتكررة له بعد ذلك، والكل ينتظرونه، وهو يحدق فيهم بعينين بليدتين لا يعرفان شيء أو لا يذكران شيء، وفم فاغر لا فائدة منه اللهم إذا أسعفة في وقت لاحق بنطق الشهادتين.
سمنو: 13/8/09