في ليبيا، توجد الآن مدن خالية من البشر. في المواجهات الأخيرة، تجاوزنا مرحلة النزوح من مدينة إلى أخرى أو من قرية إلى أخرى. نعيش الآن حالات نزوح جديدة داخل المدينة نفسها.
حي بأكمله ينزح إلى أحياء أخرى آمنة بعض الشيء. لكن لا يستمر الأمر، يصل القصف إلى هناك فيبحثون عن مأوى أو مرعى جديد كما يحدث أيام البدو الرحل والبحث عن الكلأ. المكان الجديد الذي تنزح إليه تعامل فيه بطريقة لم تألفها، يستغلونك فيرفعون إيجار البيوت أو ينظرون إليك كمتسوّل أحيانا، وأنت عزيز ببيتك وعملك والظروف التي لم تشارك فيها هي التي أجبرتك على أن تنزح. قد تكون محظوظا لو وجدت بعض أمتار في مدرسة أو مرفق عام لكن بالمقابل عمليات النزوح الداخلي تخللتها بعض الإيجابيات، وجعلت الناس تعرف أن مصيرها واحد، ومن هنا فتحت بيوتها للنازحين من الأقارب وغيرهم، وقاسمتهم قوتها وكل شيء إلى أن يفرج الله.
النزوح إلى دول الجوار هو الأصعب والأكثر تكلفة. لدينا عدد هائل من النازحين في تونس ومصر والجزائر يعيشون ظروفا قاسية رغم كل الجهود المبذولة من المنظمات الدولية والسفارة. أن تبتعد عن عشك أو تنتزع منه انتزاعا، يخلف في النفس جرحا عميقا مؤلما يتسع أكثر كلما مر الزمن.
يأتي الجيش ويعلن أن هذه المنطقة يريد تمشيطها من المتطرفين، ويطلب من كل السكان ترك بيوتهم، ويمنحهم مدة زمنية قليلة ليبدأ القصف، فتضطر إلى الخروج قبل أن تجبرك كثافة النيران أن تظل سجيناً. المتحاربون الآن في ليبيا في بداية ثورة فبراير وحتى الإطاحة بالعقيد القذافي بعد شهور، كانوا صفا واحدا، هدفهم إسقاط نظام الديكتاتورية، وبعد أن سقط بمساعدة المجتمع الدولي وقوته العسكرية، بدأت الحرب بينهم لتصل حاليا إلى ما وصلت عليه، ولترتبك المعايير وتتغير. الثائر صار عميلا والعميل آنذاك صار ثائرا حاليا، والاحتكام حاليا للسلاح، فلا منتصر ولا مهزوم، والبلاد تنزف من كل المستويات، وقد تنهار بين لحظة وأخرى بطريقة الاختفاء من الخريطة، وقد لا نستغرب إن تم تقاسمها بين دول الجوار مصر وتونس والجزائر والسودان وتشاد والنيجر بدعوى الفوضى والخطر على الأمن العالمي والاقليمي.
تخرج من بيتك ولا تدري هل ستعود أم أنه الخروج الأخير. إعجاب واحد أو مشاركة واحدة على إدراج في الفيس بوك أو تويتر، يمكنها أن تصنفك إلى مع أو ضد. لا جيش ولا شرطة في الشوارع بل في البلاد كلها. سترات عسكرية و بوليسية داخلها بشر ، ولاؤهم لمن ألبسهم هذه الخرق، مليشيات، جهويات، مؤسسات مجهولة، مدينة كاملة كبنغازي مقفلة منذ أكثر من شهر، يصعب التحرك داخلها. أكوام القمامة تتكدس في كل مكان.
الكل يطلق النار، الكل امتلك السلاح، لا تعرف عدوك من صديقك. في البيت الواحد يمكن أن ينشب قتال بين الإخوة أنفسهم. السفر عبر الطرق البرية مخاطرة. استيقافات مجهولة. تفتيش عن كل شيء. “تعال أنزل، هات اللابتوب”، تضعه على خشم سيارة عسكرية، “افتحه”. يتفرجون على الصور، صور عائلية، صور أخرى، تعترض بكلام حقوق انسان وغيره، معنى ذلك أنك ستبقى لديهم وسيطويك المجهول. هات الموبايل، اطلاع على الأرقام، على الصور، على الفيديوهات، على الرسائل. جيد بطارية الهاتف نفدت ولا وقت لديهم لشحنه من جديد. يهز شبه العسكري رأسه، أنت كاتب؟ نعم. مع من؟ مع هذا المجرم. تريه القلم.
تفتيش المقتنيات الشخصية يحتاج إلى أمر من النيابة! لكنك ترى من نافذة الباص الدبابة تعلوها عدة مدافع وبنادق رشاشة، وجندي نصفه عسكري ونصفه مدني، فتغض الطرف.. يبتعد الباص. يدخل الظلام. تنظر إلى القمر والسحاب الذي يغطيه رويدا رويدا. البلدة التي وصلنا إليها الآن مليئة بالجزارين ومطاعم الشواء الملحقة بها. تُذبح حيوانات أمام محل الجزار. جمل صغير مربوط ينتظر دوره وتيس ماعز يلبلب محاولا الهرب، لكن الحبل المربوط في شجرة الزيتون لا يمنحه أمتار سلاماً.. ينزل الركاب. يتناولون المشوي الميت. ينسون الإهانات والمعاملة المقرفة. الشواء اللذيذ يجعل كل الاساءات من الماضي.
فعلاً نحن في ليبيا نتقاتل، لكن قصعة بازين أو أرز أو كسكسي بلحم كبير على المفاصل يمكنها حقن الدماء. وبعد الشاي والسجائر التي تعقب وليمة الصلح، نعود أخوة من جديد وننسى من مات من أجل الوطن أو أي قضية آمن بها أو وضعوا له شركا أيديولوجياً كي يؤمن بها.
أناس تموت في كل مدن ليبيا وصمت ثقافي مخجل. نخبة ليبية غائبة جدا تطل بوقاحة لو تم اقتراحها لمنصب وزاري أو سفارة أو غيرها من المكاسب الصغيرة. ليس لدينا الآن كتاب مؤثرون. معظم الكتاب الكبار الليبيين الحاليين، كانوا متورطين في علاقات جيدة مع نظام القذافي، أفقدتهم مصداقيتهم أمام الشعب.
كاتب واحد كان يمكنه أن يفعل ذلك.. أن يقود الشعب، وهو الصادق النيهوم، الكاتب الذي أثر في وجدان معظم الليبيين، وتأثر به حتى القذافي نفسه، لكنه في 1994. ليت هذا الربيع العربي الكئيب قام في ثمانينيات القرن الماضي حيث كان النيهوم حيا، لصار آنذاك زعيما وترأس البلاد مثل فتسلاف هافيل، الكاتب المسرحي التشيكي. لكن ليبيا حظها سيء، ورغم ذلك علينا أن لا نيأس، فلا مناص من تلاحم أدباء ومفكري وكتاب ليبيا الحاليين، لإدخال وإقحام الثقافة في الميدان، باعتبارها طوق النجاة، فربما ستوحد الليبيين وتوقف تقاتلهم الحالي، وربما ستحافظ على هويتهم وتجنبهم الانقسام.
نحن كليبيين نعرف جيدا أن انتصاراً كروياً واحداً يمكنه أن يجمعنا. النفسية الليبية غريبة بعض الشيء، فالليبيون لا تحكمهم السياسة لكن يحكمهم المزاج. يلتفون جميعا حول أغنية ليبية تنفذ إلى وجدانهم، لكن لن يحدث ذلك إلا عندما يرتوون من الدم ويصطدمون بالجدار كي يحطمونه برؤوسهم، كجدار برلين ويبيعونه للسيّاح الراغبين في اقتناء ذكريات ثورة دموية.
نحن نقتل بعضنا الآن بشراسة. نحاول استعادة أحداث الثورة الفرنسية. لقد شارك في ثورتنا برنار ليفي، فلا بأس إذن من جعل ربيعنا الليبي مقصلات ثورة فرنسية لبضع سنوات… بدأت الحرب تفصح عن قذارتها عبر ذبح الإنسان لأخيه الإنسان. مناظر بشعة لم نكن نظن أننا سنصل إليها مهما كرهنا أو حقدنا على بعض.
_________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل