المقالة

محاريث المواسم البعيده

كان وحده. دائما وحده. يحمل همه وحزنه وحده. عرفته المدينه لاْول مره فى الستينيات الماضيه. ترك الملجاْ وطفق يذرع الشوارع وحيدا. كان يرتدى جردا ويحمل مقرونته ويعزف عبرها الحانا شجيه.. مختلفه. عندما تحاول الوقوف بجانبه.. يغير مكانه فى لحظه.

كان وحده. يحمل اْلامه وحده. ثمة كمد مختف فى صدره.. فى اعماقه. كان قد اْتى مع حزمة من اْقاربه منذ فترة طويله بعيد انتهاء الحرب. ظلوا فى الصحراء يبحثون عن عن الالغام.. يفكونها قطعة قطعه ويقومون ببيعها. لقمة العيش كانت صعبه. مخاطر واهوال والصحراء والتربان.. الالغام وعواء الذئاب. ذات يوم انفجر لغم بينهم. نجا وفقد اقاربه دفعة واحده. شاهدهم يتمزقون قطعة قطعه ويتطايرون. اصيب بالذهول ودخل فى حالة ثانيه.. يحمل همه وحده. يسير وحده. ويعزف المقرونة وحده.

فى مرحلة ثانيه.. خلع الجرد. فى لباس عربى يسير حافيا. كث اللحيه وشعر الراْس. يدخن بشراهه ويشعر بحزن فى العمق.. فى جوفه. ترك المقرونه. لم يعد للحن معنى. يظل يردد اغانى العلم فى حزن واْسى.. واْحيانا يضحك بحزن!!

كان وحده. ثم صارت الدراجه رفيقته.. جزء منه. احيانا يعتليها واحيانا كثيره يسير بها عكس الاتجاه فى الطرقات دون ان يركبها. حياة عجيبه.. وحزن قديم فى الصدر. تتعاطف معه الجموع. تشعر حياله بالود. تمنحه السجائر وبضع نقود. كانت لديه عزة نفس. لا يطلب او يشحذ.

شركه كان جزء من حياة المدينه. اْحد المهمشين فى الحياة. الظروف اللعينه اوصلته الى ذلك. والحزن والهم فى القلب والخاطر.. واغانى العلم وفقد الاحباب. عرفته المدينه شارعا شارعا وضاحية ضاحيه.. الاطفال والكبار والنساء.

الى اْين تمضى ياشركه.. بعد فقد الاحباب؟!. الى اللحن والاغنيه. اْم الى حلم ضائع اْصلا. ويمضى يذرع الدروب. وحيدا لكن وراءه الف حكايه. اْلف حزن. ثم يختفى ويغادر الحياة متعبا. شركه.. او المواطن الليبى محمد الزايدى.

مجانين القرى

خرج من المستشفى النفسانى بالمدينه. عاد الى القريه. فرحت الاسره هناك بالعودة. نحرت ناقه واقامت وليمة غذاء. حضر الاقارب والجيران وابتهجوا. عقب الشاى تداعت الحكايات. ساْلوه عن المستشفى الذى كان به والمدينه… اجابهم.. باْنه وسط حدائق واعناب. وانه يحوى قسمان.. (الف وباء). قالوا له حدثنا عنهما؟ قال لهم.. الله لايروعكم.. قسمان صعبان للغايه. اْنت وين كنت؟ اْجاب فى (جيم). جيم.. شنو دوته؟ قال.. عادى جدا. انه مثل قريتنا هذه. خشوش وطلوع وتهدريز كيف قعدتنا هذى.. كيف هدرزتنا هذى. عادى جدا.

دعاء مستجاب

حدث ذلك فى الثلاثنيات. هنا فى بنغازى. كانت المراْة وحيدة فى بيتها تبكى بحرقه.. منذ اْيام وليال وهى هكذا. زوجها رحل منذ فترة. ترك لها وحيدها الصغير. كانت يهودية.. من اْهل الكتاب. اْحد الرجال من الجيران.. تعلق بها.. ضايقها. ساومها.. ثم ضايقها وعرض عليها الزواج. وفى كل الاحوال رفضت. ستتفرغ لوحيدها فقط. ستظل مخلصة لزوجها الراحل.

ضايقها.. وساومها. كانت فاتنة الجمال. لم ترضخ.عندما فشل مشروعه. حرق قلبها.. ماذا فعل؟ فى لحظة غافلها.. واستطاع ان يخطف وحيدها.. ويقتله.. حرقا. انتقام وتشف.,, وكانت وحيدة تبكى بحرقه.. بمراره.. وكانت على مدى ايام يختلط بكاؤها بهذا الدعاء الذى ظل يشق ليل المدينه ويصعد الى السماء..

يامرعى راقد جردينه….. ياصلاى كل افجار
خرب بيت…………… وطلق فى جالاته نار

دعاء حار.. لكنه كان مستجابا. بعد ايام قليله.. احترق فى بيته.. ومات !! تقول العجائز.. حتى الكفار ماتظلمهم ياولدى. ربك ياخذ بدعاهم.. دعاء المظلوم واعر ياولدى… حدث ذلك فى الثلاثينات.. هنا فى بنغازى.. فاحذروا الظلم والدعاء.. والبكاء فى البيوت الوحيده.

بابا سليم

.. والبحر يمتد يعانق الافق فى جليانه. والبحار سليم فى الغرفه رقم 1 من ديار الشاطى القديم. انه جزء من البحر.. من جليانه. سليم العربى من الذى لايعرفه؟ انه صديق البحر والناس.. يعمر قلبه الود. وصديق النوارس والقطط ايضا!!. غرفته رقم 1 فى بداية مصيف جليانه عامرة بالاصدقاء. سليم قلبه ماْخوذ بالاصدقاء والناس. الغرفه تمتلىْ بكل الاجيال.. والاطياف.. مادى تربل وحمد اخليف والصادق النيهوم وابراهيم النوال ومصطفى بن حميد وعبدالسلام اوحيده وعبدالله سعيد.. وغيرهم. يجدون فى تلك الحجره الملاذ والاستقبال الطيب والحكايا.. واكلات السمك الشهيه.. والقطط الودوده.. بابا سليم عالم اخر.. انسان يمتلىْ حبا وشهامة نحو الاخرين. والبحر يمتد يعانق الافق البعيد فى جليانه.. والغرفه رقم 1 تمتد حكاياتها.. ويتوهج اْنسها وسمرها الى اخر الليل. لم يكن بابا سليم وحيدا.. كان ماخوذا بالناس.. بالاصدقاء الذين تفرقوا فى النهايه… بابا سليم صديق البحر والناس. قطعة من بنغازى.. من بحرها.. من جليانه. بابا سليم والبحر قطعة واحده. بابا سليم العربى غادر وبقت فى النفوس ذكرياته التى لاتنطفىْ. انه شىْ اخر. تاريخ لاينسى.. بابا سليم.. والبحر.. والافق.. والنوارس الى اخر الحكايه.

بوابات وحواجز

فى بنغازى.. فى السنوات الاولى للاحتلال الايطالى انقطع السكان عن بعضهم. البعض فى جبهات القتال. البعض فى السجون والمنافى. البعض فر من الخوف والرعب او التعقب. والاخر ظل محاصرا داخل المدينه. تفتق ذهن السنيور الايطالى عن فكرة تتلخص فى اقامة بوابات وحواجز واسوار داخل المدينه. ثمة فم السور فى مدخل المدينه الشرقى. بوابه اخرى عند الملعب البلدى. حاجز كبير يفصل سيدى حسين عن المدينه على امتداد الشارع الممتد الان من مفرق الكهرباء باتجاه مدرسة الامير وحتى مبنى الخطوط. واخر يفصل البركه عن سيدى حسين والمدينه. عرف بالمفلوقه حيث السيلس وراس عبيده. واخر عند برج شويليك فى جليانه قرب نادى الملاحه. ذهنية العزل والمحاصره والتضييق… بوابات وحواجز قسمت المدينه. لم يتمكن الاهالى من الزيارات او تفقد الاحباب وظل مثلا رفيق شاعر الوطن يحن من سكنه بسيدى اخريبيش وسط البلاد الى صديقه الشيخ موسى البرعصى فى سيدى حسين من خلال القصائد. لم يكن ثمة نقالات او هواتف او بريد. كانت القصائد والدموع هى بريد بنغازى.

 ليبيا كوشت

.. ويرن الصدى.. صدى الزغروته فى كل الابعاد..ومعها فرحة باْن ليبيا كوشت. ليبيا التى كانت فقيره ومعدمة وبائسه. اضحت من ذوات الملايين… كانت العجوز السمراء تاْتى من الزرايب شرق المدينه. تحمل طبقا به الفول السودانى. تبيعه فى قراطيس.. وتذرع الافاق.. الشوارع والازقه ويمشى خلفها الاطفال. تعبر سوق الجريد ثم سوق الظلام.. ثم ميدان البلديه وشارع عمر المختار.. وتزغرد. وتصيح ليبيا كوشت.. ليبيا كوشت. تبتهج فرحا. ويشعر الاطفال والرجال ايضا بالفرح… وتردد الجوانب تفاصيل الزغروده ومعنى ليبيا كوشت. معنى الماضى الملىْ بالحزن.. بالجوع.. بالفقر.. بالحاجه. كان الجميع يستبشرون بقدومها.. يشاركونها الفرحه والسرور. كانت امراة سمراء بسيطة تنتمى الى ليبيا من خلال الزغرودة..وفرح الاطفال والرجال.. كانت تخلق جوا من الفرح وتترك اجواء من البهجه فى المناسبات.. وفى كل الايام. ثم تعود الى الزرايب شرق المدينه. ليبيا كوشت تحمل لديها الف معنى ومعنى..

الف حلم.. الف خاطر ملون.

الفرح والزغرودة.. شيئان متلازمان لايفترقان. ظهر البترول.. وليبيا كوشت. والصدى يملاْ المدينه بالوعود والحلم. وتزغرد المدينه ويفرح اطفالها ورجالها.. ويظل الفول السودانى ساخنا فى الطبق…. وزغرودة. ليبيا كوشت…… ثم!!

نزار قبانى فى بنغازى

زار نزار قبانى بنغازى مرتين.. ابريل 1967 ثم مايو 1975. واْحيا فيهما اْمسيتين الاولى كانت فى حديقة كلية الاداب والثانيه فى مدرج رفيق. قال عن ذلك (بداْت علاقتى ببنغازى عام 1967 وانتهت كما تنتهى كل علاقات الحب والفراق والدموع والشجن.. انا ركبت الطائره وسافرت. وبنغازى بقيت شعرى الذى حفرته على جذوع الشجر فى حديقة كلية الاداب عام 1967. وها انا ذا.. اعود عام 1975 لاْبحث عن بقايا حبى القديم.. وشعرى القديم..فاذا بى اجد ان بنغازى لاتزل تتذكر خلافا لكل مايقال من ان المراه العاشقه لاذاكرة لها. كل شىْ هنا.. كما تركته عام 1967. الشجر كما تركته والبحر كما تركته والعيون المسكونة بالحنان كما تركتها.. فشكرا لبنغازى.. لانها ظلت حبيبتى)… ماذا لو كان نزار حيا وجاء الى بنغازى للمرة الثالثه. ماذا سيقول عنا.. وعن بنغازى؟

_______________________

نشر بموقع هنا صوتك

مقالات ذات علاقة

البعد السياسي في بعض أفكار المعتزلة

عمر أبوالقاسم الككلي

القبلية والديمقراطية والمغالبة

صالح السنوسي

المثقفون في المربع الأول

سالم العوكلي

اترك تعليق