الخميس, 13 مارس 2025
طيوب عالمية

“الدنيا قِدرٌ كبيرٌ وأنا مِغرفة”.. رحلة عزيز نيسين إلى مصر

للكاتب التركي عزيز نيسين .. ترجمة: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير

الأديب التركي عزيز نيسين (الصورة: عن الشبكة)
الأديب التركي عزيز نيسين (الصورة: عن الشبكة)

جواز سفر

اختيرت القاهرة لعقد الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر الثالث لاتحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا. وصلتني برقية في الحادي عشر من تشرين الثاني 1966، تقول:

– ندعوكم لحضور الاجتماعات التي ستُعقد ما بين يومي الثالث عشر والرابع عشر من هذا الشهر.

أرسلوا دعوتي قبل الاجتماعات بيومين فقط!

كنتُ قد تقدمت قبل عشرين يومًا من هذا التاريخ بطلب للحصول على جواز سفر، وكنت أذهب كل يوم لمكتب الأمن ولم يسلموني جواز السفر. وبعد وصول البرقية بيوم واحد أعطوني جواز السفر، وكأن هناك لعبة ما. ففي يوم وصول البرقية صدر قرار من المحكمة بالبحث حولي وتفتيشي قبل الخروج من تركيا. كانوا يظنون أنني أجمع الأوراق السرية لأعطيها للأعداء حتى تفلس تركيا. لم يكن قرارًا عاديًا، كان قرارًا رسميًّا من المحكمة.

لم يجدوا ما يبحثون عنه بالتأكيد، لكن أياديهم لم تبق فارغة. كنتُ قد أخذت معي النقود المتبقية من حقوق كتبي بالألمانية، وكانت 36 دولارًا. وهي أموال ربحتها من خارج البلاد. أخذوا هذه النقود، ودفعتُ غرامة 980 ليرة غرامة. كان معي في الطائرة 150 ليرة فقط.

تيسير وتعاون

أول ما أدهشني هو مطار القاهرة. كان كبيرًا وعصريًّا، ومن الطبيعي عندما تذهب لبلد لأول مرة أن تُقارن بينه وبين بلدك.

لم أنهِ معاملة حصولي على التأشيرة من قنصلية الجمهورية العربية المتحدة في إسطنبول. لماذا؟ لأن تركيا أغلقت قنصليتها في الإسكندرية، ومصر تريد أن تتعامل بالمثل، أي وجود قنصلية تركية في مصر إلى جانب السفارة. ولكن ماذا نفعل؟ لم نعد بحاجة إلى القنصلية في الإسكندرية، فماذا نفعل؟ كانت إجراءات التأشيرة في سفارة الجمهورية العربية المتحدة في أنقرة. ولن يحصل على التأشيرة من المطار إلا من سيسافر من إسطنبول.

الملابس السوداء والملونة في الجو الحارّ تجعلك تشعر بالحرارة أكثر، ولذلك يرتدي الذين يعيشون في مناطق حارة ملابس بيضاء، وفي رأيي، هناك سبب آخر لارتداء المصريين للون الأبيض. رجال الشرطة المصرية يرتدون الأبيض، ورأيت في القاهرة ولعًا باللون الأبيض النظيف.

قال لي الشرطي:

– ليس لديك تأشيرة.

– نعم، سأحصل عليها من هنا.

– هل لديك دولارات؟

– لا، معي ليرة تركية فقط.

النقود التركية غير مستخدمة في مصر، ماذا سيحدث الآن؟ قلت:

– لقد دعوني إلى هنا، لنتصل باتحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا.

ولأنني كنت قد أرسلت لهم برقية بحضوري من قبل، جاؤوا إلى المطار لاستقبالي. كان الساعة التاسعة مساءً، ولا أحد في اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا. قال الشرطي:

– هل أنت صحفي؟

– نعم.

– تأشيرة الصحفيين مجانية. سأعطيك تأشيرة لمدة أسبوع ومن الممكن أن تطلب إطالة المدة لاحقًا.

أسعدني موضوع التأشيرة المجانية للصحفيين، وأن الشرطي يسّر عملي. بعد ذلك أخذ الحمَّال حقيبتي، ويجب أن أقول إن الجميع تقريبًا يعرف الإنجليزية هنا، سواء بدرجة صغيرة أو كبيرة. ومن إسطنبول، أعرف كم يحب الحمَّالون النقود. أخذت حقيبتي وقلت:

– ليس لدي نقود.

– تمام، لا أريد نقودًا.

كنت أظن أنه لم يفهم، فقلت مرة أخرى:

– أقول لك ليس لدي نقود.

– فهمت، ولا أريد.

وضع حقيبتي على العربة وأخرجها لشخص آخر خارج المطار، فقلت:

– ليس لدي نقود.

– تمام.

وضع الحمّال الآخر الحقيبة في الباص، وأخرجت بعض النقود لإعطائه فقال:

– شكرًا، لكن النقود التركية غير مستخدمة هنا، لا أريد.

قبل أن ينطلق الباص، كانت فتاة تأخذ نقود التذاكر، ودون أن تقول لي شيئًا أخذت حقيبتي ونزلت، فقالت:

– ألن تذهب معنا؟

– هل من الممكن أن أدفع نقودًا تركية؟

– لا أريد منك نقودًا.

أعطت الجميع تذاكرهم، ولم تأخذ مني نقودًا. وهكذا كان أول لقائي في مصر بشخصيات رقيقة. هل كل هذه الأمور مصادفة؟ رأيتُ خلال إقامتي في القاهرة الكثير من هذه المعاملة، وربما هي أحداث صغيرة، لكنني أهتم كثيرًا بالتفاصيل الصغيرة، وبهذه الأمور أحاول فهم العلاقات الإنسانية في هذا المجتمع.

فكرت كثيرًا في أن علاقات المصريين ببعضهم البعض ليست متوترة أو حادة. أتصور أن هناك ثلاثة أسباب لهذه الأمور؛ الأول أنهم أبناء حضارة قديمة وهذا ليس شيئًا سهلًا ويظهر هذا مع الجميع حتى الحمّال في المطار، وهذا التراكم الحضاري يظهر عند الأتراك أيضًا. حتى الدول المتقدمة لا تجد فيها العلاقات الاجتماعية بهذا الشكل.

والسبب الثاني هو أن المصريين سُحقوا كثيرًا طوال تاريخهم، والمسحوق يشعر بالمسحوق مثله ويساعده في أصعب ظروفه. ولكي يتمكن المسحوق من الوقوف يجب أن يستند إلى شخص آخر، والأتراك سُحقوا أيضًا ولكن ليس كما حدث مع المصريين. وسنتحدث عن هذا لاحقًا.

السبب الثالث له علاقة بالسحق أيضًا. فالشعب المصري طوال التاريخ كان على رأسه حاكم، سواء منهم أو من غيرهم. من العثمانيين والفرنسيين والإنجليز، وقد سُحق الشعب المصري كثيرًا، وبدلًا من أن يصبح أكثر حدّة، صار أكثر مرونة.


* الكاتب التركي عزيز نيسين، والفصل مُقتطف من كتابه “الدنيا قِدرٌ كبيرٌ وأنا مِغرفة: رحلة مصر والعراق” الحاصل على “جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة” (2021 – 2020) في فرع “الريبورتاج الرحلي المترجم – الرحلة الصحافية” بترجمة: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير.

صحيفة عمان | 26 ديسمبر 2022

مقالات ذات علاقة

اكتشاف مقبرة تعود إلى حضارة الإنكا تحت منزل فى عاصمة بيرو

المشرف العام

في رواية “أحدب نوتردام”  للكاتب الفرنسي فيكتور هوجو.. الجمال الرائع والقبح الفضيع يتعانقان يتناثران رمادا

عزيز باكوش (المغرب)

توني موريسون أبرز رافعي راية السود في الأدب الأميركي

المشرف العام

اترك تعليق