طيوب المراجعات

أحمد إبراهيم الفقيه يُفسّر الحالة الكلبية

مهنّد سليمان

غلاف الرواية

حالة إبداعية ملتبسة تحمل بصماتها الخاصة هذا ما نقرأه بين دفتيّ رواية (الحالة الكلبية لفيلسوف الحزب الواحد) آخر الأعمال الأدبية والروائية للراحل الدكتور “أحمد إبراهيم الفقيه” الصادرة أوائل العام الجاري عن منشورات مكتبة الفرجاني للنشر والتوزيع حيث نرصد تداخل لا يخلو من السريالية لمجموعة من أدوات السرد التي يطغى عليها الأسلوب الحكائي المُطّعم بالتقريرية، والمتصل بخصوصية مبدعه وما يسكنه من هواجس تحمل ذاتيته ورؤاه تجاه عالم يكون معادلا موضوعيا وسرياليا لهذا العالم الغارق يوميا في فحش مادي يتسع مداه، وتتفشى أعراض خطورته، الفقيه يهجو بأسلوب تهكمي ساخر أنظمة الحزب الواحد، وكأن هذه الرواية تتصل بشكل ما بمجموعته القصصية (في هجاء البشر ومديح البهائم والحشرات) الصادرة عام 2009م، وإن بدت جرعة السخرية في هذه المجموعة أعلى كعبا بالإضافة لرمزية الشخوص واسقاطاتها التاريخية، لكن عبر هذه الرواية تظهر الرمزية خجولة نوعا ما غالبا عليها ولتنتمي لمنطقة ما بين الواقعية والسريالية.

حين ينبح الإنسان
إن الرواية تنتقل بنا أو بعبارة أدق تقفز دونما مقدمات معقولة إلى العاصمة الرومانية بوخارست، وتحديدا في منتجع (آنا أصلان) للاستشفاء إذ ينزل بين ظهرانيه دبلوماسي ليبي نستنتج لاحقا بأنه شاب في العقد الرابع أو لعله يزيد قليلا متزوج ولديه أبناء لكنهم في ليبيا وليسوا معه، ونجد بأن الراوي يتحاشى تسميته طوال متن الرواية ذاك المنتجع حسب فهمنا يُعنى بعلاج أمراض الشيخوخة واضطراباتها المزمنة، وما نحوها فنزلاؤه من عُليِّة أبناء القوم ودهاقنة السياسة وأباطرة المجد المُسيّج بخيوط واهية كخيوط العنكبوت، وفي إحدى الليالي المشبّعة بهدأة الليل يستسقظ في غرفته فزعا ومرعوبا جراء هدير الصوت الذي قض مضجعه. إنه صوت نباح كلب متواصل يتفاوت إيقاعه وتتبدل انفعالاته ما بين الالتياع والألم وحُرقة الصدر، كل ذلك يطويه ويحمله صوت الكلب في نبراته بيد أن الدبلوماسي الليبي ظل راصدا لنقطة مختلفة تُميّز هذا النباخ عن سواه من نباح الكلاب الأخرى ! فهو يشتد انفعالا وهياجا وتلويناته العجيبة تشي بالحزن تارة وبالهدوء الحذر تارة ثانية ! (كأن الكلب الذي يطلقه يندب حبيبا غيّبه الموت)، الدبوماسي الليبي انتقلت إليه رغبة ملحة لمعرفة كنه هذا النباح لم يعد يبالي باستكمال نومه طوال تلكم الليلة الملبدة بالنباح يبحث عن فرصة تُمكّنه من الوقوف على مصدر الصوت المُأول بالنداء الممزوج بالوجع ( أفزعني ما رأيت، وأسرعت بمغادرة الشرفة قبل أن يراني ويبحث عن طريقة طريقة يقفز بها)، وراح صديقنا الدبوماسي يحاول اختلاس السمع من وراء شباك شرفته حتى اكتشف الأمر وهاله ما اكتشف ! إن مصدر النباح رجل يقف وسط الشرفة بالكامل قيافته وهندامه يدأب على التسلل كل ليلة ليطلق سلسلة انفعالية من النباح ! ، ومن هذا المنطلق تعزز الفضول عند صديقنا الدبلوماسي للأسئلة :- من هو هذا الرجل ؟ هل يعي ما يفعله ؟ ما هو سره ؟

سرّ النباح
صباح اليوم التالي لليلة النباحية إن جاز القول فوجئ صديقنا الدبلوماسي بوجود ذات الرجل ذي الأصوات النباحية ينزوي في ركن بالمطعم يتناول إفطاره صادف أن يكون جلوسه مباشرة في الطولة المجاورة للصديقنا الدبلوماسي يدس وجهه في إحدى الصحف الحكومية الرومانية ! هنا اشتد قلق الدبلوماسي وتعاظم الرعب في نفسه (رأيت في ملامح الرجل وشعره الأشفر الرمادي ملامح الرجل الكلب الذي رأيته يطقع الشرفة ذهابا وإيابا ماشيا على يديه وقدميه، ويطلق في الفضاء نباحه الملتباع) لم يكد يصدق مارأت عينيه لقد شاهده والغريب أنه في حالة سويّة ماهذا كيف حدث ما حدث هل كان الدبوماسي يحلم ؟ جملة من الأفكار تدافعته إلى مقدمة رأسه مرة واحدة ! ما دعاه لمغادرة قاعة الإفطار خشية أن تعود للرجل نوبته الكلبية مجددا ! نعم هذا الرجل يعاني إنه مضطرب نفسيا لكن مالذي جاء به إلى هذا المنتجع كان حريا أن ينزل في إحدى المراكز الصحية ؟ من جهته أطلق الدبلوماسي العنان لفضوله الحثيث سائلا الطبيب المسؤول بالمنتجع محاولا طمأنته بأن الرجل ليس مصابا بالسعار، ولم يتعرّض لعضة كلب مريض لكنها حالة عصبية أصابت (رجلا من أصحاب العقول الكبيرة، أجهد عقله كثيرا في حل عظيم المعضلات)، وفي رواية أخرى يشاع بأن الرجل فقد كلبا عزيزا ما عكس آثار الفراق عليه بهذه الإصابة ! إلا أن صديقنا الدبلوماسي لم تقنع كل هذه الروايات التي تجري على الألسنة بمنتجع (آنا أصلان) ثمة سر ما سر عظيم يختزل معاناة الرجل ويُجسّد النتيجة الطبيعية لنكبته، لنكتشف لاحقا أن الرجل ما هو سوى البروفسور “فلوريان بوبيسكو” فيلسوف الحزب الشيوعي الروماني الحاكم صاحب اليد الطولى في كل شيء بعد الرئيس الروماني “شاوشيسكو”.

الحب يقود السياسة
لكنّ السؤال كيف وقع ما وقع لهذا الفيلسوف ؟ مالذي أتي برجل مثله ليصبح نزيلا بهذا المكان ؟ يتتابع السرد مدفوعا بحمى المعرفة، ومن خلال الفتاة “أوليفيا” يُماط اللثام عن السر ويُفضح المستور فصديقنا الدبوماسي الليبي يُغرم بجمال أوليفيا ابنة فلوريان أريت معي كيف تقع الصدف ؟ فتاة الشمس تشرق من عينيها والأحلام تزدهر على ضحكتها اهتز صديقنا مما رأى فقرر ضرورة أن يُجسّر الهوة بينه وبينها، والفيلسوف فلوريان وقع ضحية لنزوات شاوشيسكو ونزقه ورعونته واغتصابه لزوجة الفيلسوف وإدعاءه بأنه لم يكن يعلم أنها زوجة صديقه فلوريان وتفاصيل أخرى لن أحشرها في هذا المقام لقد تسبب كل ذلك في اهتزاز واضطراب فلوريان وانسحابه من الحياة السياسية إنما يقودنا الراوي في هذا الصدد إلى تطور العلاقة بين صديقنا الدبلوماسي وأوليفيا الحسناء للدرجة التي جعلته يكون همزة وصل بين أبيها وبين النظام السياسي الليبي السابق وهو ما كدّر صفو الأجواء بين النظامين الروماني والليبي لاسيما بعدما فرّ الفيلسوف فلوريان واسضافته حكومة ألمانيا الغربية بصفته معارضا لنظام شاوشيسكو، وصولا إلى أن وجد الدبوماسي نفسه إزاء خيار أن يضحي بكل شيء، ويعلن انشقاقه عن النظام الحاكم في طرابلس فقط كي يضمن بقاءه برفقة حسنائه أوليفيا .

مقالات ذات علاقة

صدور كتاب (الكلية العسكرية الليبية) للأستاذ الفنادي

يونس شعبان الفنادي

وثائق علمية تاريخية

المشرف العام

حكايات مواطن ليبي

إبراهيم حميدان

اترك تعليق