بعض المهن يكتسب منها أصحابها طلاقة اللسان وجودة الكلام، وبعض المهن الأخرى يتعلم منها ممارسوها فضيلة الصمت، والواقع أن الحياة ليست مقصورة لا على هؤلاء ولا على هؤلاء، فالاثنان لا يمكن الاستغناء عنهما.
الأطباء والمهندسون ودارسو علوم الفيزياء والكيمياء والفضاء والحاسوب وغيرها من العلوم التجريبية والتطبيقية أكثرهم لا يحسنون الكلام، ولا يقدرون على الجدال والحوار والمحاججة، لأن طبيعة علومهم ومهنهم لا تحتاج إلى التفنن في الكلام، بل تحتاج إلى التفنن في إعمال العقل وفي تفتق الذهن والذكاء، والصمت ـ بلا شك ـ يوفر لهؤلاء فرصا للتأمل الخلاَّق وللتفكر الهادئ الذي يقود للإبداع والاكتشافات المبهرة.
وكلام هؤلاء في أغلب الأحيان مقتضب، وبارد لأنه يصدر من العقل لا من العاطفة، ولا يعتمد على الإطناب والمجاز والتكرار، بل الألفاظ عندهم تكون على قدر المعاني، ودلالاتها مباشرة لا تحتمل التأويل والتقدير إلا في حدود ضيقة، وعمدتهم في الكلام الموضوعية والحجج المستندة على العلم والتجربة والملاحظة.
والداخل إلى أماكن أعمالهم وإلى مختبراتهم يجد الهدوء والصمت، فلا صوت ولا جلبة، فكل شيء يوحي بسكون المقابر وبرد الاسكيمو، وإذا وجدت أحدا من هؤلاء كثير الكلام جياش العاطفة فثق أن هذا بسبب أثر البيئة فيه، فحين يعيش المرء في وسط اجتماعي تُعد فيه كثرة الكلام دلالة على المهارة والنبوغ يستوي عندها الطبيب والفلكي والمعلم والخطيب.
ومن جانب آخر نرى كثيرا من المعلمين والقضاة والمحامين ودارسي علوم اللغة والدين والسياسة والاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية يغلب عليهم كثرة الكلام والبراعة فيه، لأن بضاعتهم الكلام والتفنن في عرض الحجة، لذلك هم أقدر من غيرهم على الجدال والنقاش ومغالبة الخصم، ومجالسهم يغلب عليها الصخب والضوضاء، وهذا الأمر ليس مما يُعاب، ولكن الذي يعاب هو أن بعضا من هؤلاء يصير عنده الجدال والمحاججة طبعا مَكيناً، وشهوة عارمة كشهوة الأكل لا يستطيع كبحها ولا التحكم فيها، لذلك تراه إذا لم يجد مجالا للكلام والجدال أوجده ولو بالمكابرة والعناد، وهذا الصنف من المجادلين يجادل في كل موضوع يخطر على باله، فتراه يناقش بحماس وأطرافه ترتعش، والزبد يملأ شدقيه في السياسة وهموم المجتمع وقضايا الدين ومشاكل البيئة والأمراض المستوطنة ومخاطر طبقة الأوزون والنيازك الساقطة على الأرض، وعمدته في الكلام العاطفة الملتهبة والأحكام الانطباعية الصادرة عن الهوى والميل القلبي، وإذا سدت عليه وسائل الثرثرة، ولم يتكلم ويجادل في موضوع شعر بكسل وتنمل في لسانه وخدر في أطرافه، فإذا واته الحظ ووجد موضوعا يجادل فيه اندفع الدم في عروق لسانه، واندلقت منه الحروف والألفاظ كالسيل العرم، ورأيته فرحان جدلا كأنه ملك الدنيا وما فيها.
المنشور السابق
المنشور التالي
عادل بشير الصاري
ـ عادل بشير عبد الله الصاري ، مواليد زليتن ، 1958م ، متزوج.
ـ عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية ، الجامعة الأسمرية.
ـ أستاذ مادتيْ الدراسات الأدبية والنقدية منذ عام 2000م. | المؤهلات والدرجات العلمية: ـ ليسانس من قسم اللغة العربية ، كلية التربية ـ جامعة طرابلس،1982م. ـ ماجستير في الأدب والنقد من قسم اللغة العربية، كلية الآداب،جامعة المرقب، 1999م . ـ دكتوراه في الدراسات الأدبية والنقدية من قسم اللغة العربية ـ كلية الآداب ، جامعة دمشق . سوريا . 2008م. | ـ محاضر عام 2008م . ـ أستاذ مساعد عام 2012م. | النتاج العلمي: ـ كتاب ( الغموض في القصيدة العربية الحديثة) دار رؤيا، زليتن، 2006م. ـ لغة الشعر الليبي المعاصر ـ مخطوط، ومعد للطبع. ـ بوح الخاطر ـ مقالات ، مخطوط ومعد للطبع . | مجموعة من الدراسات والبحوث المنشورة منها: غموض الخطاب الشعري المعاصر،مجلة فضاءات ، العدد 2 ، 2002م. تطور لغة الشعر العربي الحديث ، مجلة الجامعة الأسمرية، العدد3،2004م. الشعر الليبي عبر العصور القديمة،مجلة الجامعة الأسمرية،العدد 7،2007م. هواجس الذات في شعر إبراهيم الأسطى عمر،مجلة كلية اللغات ،العدد 6 ،2012م. عروض الخليل بين جدل ومحاكمة نقاد العصر، مجلة التربوي ،كلية التربية، الخمس ،العدد 2، 2012م. الصورة الشعرية ، مفهومها وتقنياتها في النص الشعري الحديث ، مجلة الجامعة الأسمرية، العدد 17،2012م. | المهام المُكلَّف بها: ـ رئيس قسم معلم الفصل بكلية التربية ، الخمس ، 2000م. ـ وكيل الشؤون العلمية ، كلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية 2012م.
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك