القاص الليبي.. سالم العبار
اليومي والعابر والهامشي، كثيراً ما يكون هو الحقيقي
الأنثى أصل الأشياء بدءاً من الأرض والبذرة والأم والثمرة
رحلتي مع صحيفة أخبار بنغازي استنزفت كل جهدي ووقتي ولم تضف لي… شيئاً
التقته في بنغازي “خلود الفلاح”…
يظل سؤال الإبداع، مسكوناً بالوجع لأمكنة لم تحافظ على عهود الصداقة، فالصمت المعلن ضجيج داخلي ومحاولة الاقتراب من فضائه القصصي يتطلب فن إجادة الإبحار في قاع ممتد بلا ضفاف.
المرأة عند العبار عالم قائم بذاته مليء بالدهشة، فالمرأة التي تعيد صياغة الأشياء هي تلك المرأة الاستثنائية.
قراءة مجموعاته القصصية كانت قوة ضاغطه للمغامرة الصحفية الانسياب في تصوير الواقع حرك هذه القوة. فالحياة بكل تفاصيلها تشكل مادة نصه إبداعي.
المكـان القلـــق
– لماذا الكتابة؟
.. من يلقي هذا السؤال كمن يسألك لماذا نتنفس، لماذا نأكل، لماذا نشرب، لماذا نغني نرقص، لماذا نفرح، لماذا نحزن، لماذا نعيش؟
– هدوؤك المعلن يقودني إلي : هل شخصية “سالم العبار” تمارس هطولها السري داخل الذات عندما تكون في حالة إبداع نص؟
.. الهادئون الصامتون ثرثارون جداً، جداً، فالصمت كلام وحديث الصمت حديث مع النفس، وللنفس اتساع بمساحة الكون، ومن هنا فإن النصوص التي لا تتخذ من النفس أمكنه تسقط في الثرثرة غير المنتجة.
إن عالم النفس البشرية خضم متلاطم من أحداث وذكريات وأزمنة وأمكنة وقراءتها تحتاج إلي تأجيل الظاهرة بكل تفاصيله الاعتيادية أو بالأخرى عدم التماهي فيه، فهو مجرد دافع خارجي يحرك ما اكتنزته النفس من مخزون هو يشكل كيمياء النص، وهذا الهطول السري فعل مستمر يختار المكان والزمان بل يفرضه وليس في استطاعتي الاختيار.
– الأمكنة، الأزمة الشخوص لها ارتباط كبير بحياتنا الى أي مدى أثرت تلك الأشياء في أعمالك القصصية ؟
.. أعتقد أن ثمة صعوبة كبيرة أصفها بأنها إشكالية جوهرية تواجه أي مبدع في بلادنا يحاول أن يخلص لهوية نصه وينحاز لها، وهي مشكلة المكان القلق في الوطن العربي، فالمدن لدينا ما زالت تشكل أمكنة وأزمة تتغير وتتبدل بين لحظة وأخرى مما جعل التراكم المعرفي الذي تختزنه الذاكرة غير منتج لذلك، فإننا نلجأ الى الذاكرة كمرجعية تخزين تاريخاً طويلا، وهي بالتالي أزمة وأمكنة تفرض شخوصها التي تكون علاقة بشخوص وافدة لمكان وافد إنني أشعر بهذه الازدواجية، إذ دائماً ما تكون هناك ذاكرة تحاور راهنا، من هنا أجد في شخصية أبي تاريخاً وأزمة وأمكنة أترجمها بذاكرة الطفل.
قـراءة الفـوضـى
– في “خديجار” حاولت أن تستنطق امرأة من “نـار”، ألهذا الحد يغريك عالم المرأة إلي مغامرة الاكتشاف؟
.. الأنثى أصل الأشياء بدءاً من الأرض والبذرة والأم والثمرة، فهي الأصل والحسم والفعل المؤثر المجهول أو المستتر غير الظاهر، وهذه المواربة التي تجعلها عصية على الفهم هو سر عمقها، وسؤال الإبداع دائماً مستمر مفتوح على فضاء شاسع من الإيحاء والأيمان والتأويل والاكتشاف، فمن يملك أن يغير النار وألوانها العجيبة وما تختزنه من إدهاش كبير، فهي مع المرأة على مستوى واحد من التأثير. لا أحد يستطيع أن يطرد المرأة من ذاكرته ووجدانه ويدعي بان بإمكانه اكتشاف العالم.
– المرأة بصرف النظر عن صفتها أم، أخت، زوجة، حبيبة، ملهمة المبدعين، من هي المرأة التى استطاعت أن تطلق العنان لعوالم “سالم العبار” الإبداعية ؟
.. المرأة الأكثر إحراجاً للسائد والثابت التى تجيد قراءة فوضاي وتمتحن وجداني في كل لحظة، المرأة التي يمكنها أن تكون ” خديجار “.
اختـراق المحظـور..
– صدر لك عام 1982 م (تجليات مهرة عربية)، وعام 1987 م (منشورات ضد الدولة)، وأخيراً (خديجار)، هل يمكن إرجاع الاحتفاء الذي شهدته المجموعة الأخيرة إلي مرحلة نضج أكبر؟
.. أعتقد أن وراء هذا الاحتفاء حالة صدق مع الأمكنة والأزمة وجرأة في اختراق المحظور وإعلان الهوية، فالنص الليبي مثل النص العربي عموماً يواجه سؤال الهوية، واذا لم يستطيع المبدع أن يجيب عن السؤال الأزلي الذات للذات، من أنا لا يستطيع أن يقول من نحن؟.
– روايتك (عام العطش)… حدثنا عن أجوائها الإبداعية ؟
.. عام العطش لا تعرفه إلا فئة بسيطة من مواطنينا يعود تاريخه الى أواخر الخمسينيات في ذلك العام توفيت والدتي، وعشت على لبن الناقة والتمر بعد ذلك العام مباشرة جاءت فصول الشتاء والربيع، ثم أجدبت الأرض وجف الزرع وشهدت السنوات التى تليها خصوصاً بعد اكتشاف النفط تدفق سكان الريف على المدينة، وفي خصم هذه التحولات عاش والدي تجربة مريرة حاولت أن اتهجاها من خلال هذه الرواية التي لم تكتمل بعد.
رائحـة التــراب
– في لحظة حنين لأشيائك الخاصة، كيف تتذكرها ؟
.. ما زال يجذبني الحنين لمواقف صغيرة لكنها عميقة وكثيراً ما تتسرب إلي نصوصي. مازلت أذكر الالتقاء الجميل بين الوادي حين يفيض والبحر، مياه البحر بلون التراب، وما زلت أذكر كيف رأي أبي ذلك المشهد، فسالت دموعه، لتذكره الريف الذي هجره، وكأن البحر شارك أبي حزنه فاحمر خجلاً، وما زلت أذكر رائحة التراب حين يبلله المطر. أشياء صغيرة أتذكرها بلذة مصحوبة بالألم.
شـروع للـدخـول
– في أحد أعداد مجلة (الشاهد) قراءة لمجموعة (خديجار) وما أود الاشارة إليه هو أن الناقدة ظلت تلح على سؤال واحد وهو لكي تكون العملية النقدية متكاملة لا بد من التعرف على جميع إصدارات المبدع والتي بالطبع لم تكن متوفرة لديها، إلى ما ترجع هذا التباعد الثقافي ؟
.. الناقدة الجزائرية التى تناولت المجموعة القصصية “خديجار” من خلال مجلة الشاهد قدمت دراسة عميقة ودقيقة، وكأنها عاشت معي لحظات ولادة كل قصة من قصص هذه المجموعة وقراءة مجموعة قصصية واحدة، لا شك أنها تقدم فكرة لا بأس بها عن كاتبها، أما هذا التباعد الثقافي، فمرجعه عدم التعريف بالكتاب والكاتب الليبي وهو تقصير من الكتاب أنفسهم. فالكتاب الليبيون لا يطرحون أنفسهم على الآخرين فكبرياؤهم أكبر من ذلك ثم تقصير آخر سببه عدم توزيع الكتاب الليبي علي نطاق واسع وغياب الأنشطة الثقافية.
– عبر أسطرة الواقع، هل تحاول من خلال نصوصك الأدبية التركيز علي اليومي وصولاً إلي حقيقة أنت تنشدها ؟
.. اليومي والعابر والهامشي كثيراً ما يكون هو الحقيقي الذي يغيب عنا في زحام الأشياء ومهمة القبض عليه واستنطاقه مهمة عسيرة وهي لا بد أن تكون كذلك، لأنها شروع لدخول لحظة الكتابة، لذلك فإن اليومي هاجسي لاستنطاق الحقيقة.
أدب ملتزم …
– أدب الأظافر الطويلة وخاصة في مجال القصة بداية من “زعيمة الباروني” ومروراً بـ”شريفة القيادي” و”لطيفة القبائلي” و”مرضية النعاس” وأخريات. المشهد القصص النسائي في بلادنا ماذا ينقصه ليحتل فسحة الزمان والمكان ؟
.. أنا ضد تقسيم الأدب بين أدب نسوى أخر رجالي وهو تقسيم على نسق تقسيم شاع وساد في الأدب العربي بين أدب مقاومة وأدب ملتزم وآخر مخل بالالتزام فالشعور الإنساني واحد.. لكن مجاراة منى لنسق هذا السؤال أقول : إن الأصوات الأدبية في ليبيا قل أن يوجد نظيرها في أي مكان، لكن الموروث بأن تظل في بيته و ألا يعلو صوتها على صوته هذا ما ينقص هذه الأقلام.
استمرار
– هناك العديد من المواهب الأدبية التى خرجت من تحت عباءة “سالم العبار” عبر الحرف الأخضر، أقلام على الطريق، ما يكتبه المستمعون. هذه البرامج هل ثمة المزيد منها ؟
.. علاقتي بالمواهب الأدبية وإن بدأت من خلال الإذاعة فإنها ما زالت مستمرة من خلال صحيفة أخبار بنغازي، ولكي لا تكون العلاقة محددة ببقعة جغرافية تحددها طبيعة الصحيفة، فقد تتجدد هذه العلاقة من خلال الإذاعة فقط وإنني أبحث عن الوقت الذي يجعل هذه العلاقة تستمر.
أخبار بنغازي…
– رحلة صحافية طويلة..ماذا أضافت للقاص ” سالم العابر ” ؟
.. رحلتي مع صحيفة أخبار بنغازي استنزفت كل جهدي ووقتي ولم تضف لي على الصعيد الشخصي شيئاً، لكنني أضفت من خلالها للمجتمع كوادر فنية في مجال الإخراج الصحفي حيث لم يكن في بنغازي مخرج صحفي واحد، ثم ذلك الصحفي المتواصل عبر كل عدد من أعداد الصحيفة بين المواطنين الأدباء والمبدعين من كتاب وفنانين ومواهب أدبية جديدة والتواصل المتميز بين المرأة والطفل والرجل من خلال صفحة الطفل والمنظلة الاجتماعية، وحوار الحرفيين من أجل تطوير الزراعة والصناعة من خلال صفحتي اقتصاد وآفاق زراعية، وحوار الشعراء الشعبيين من خلال صفحة التراث الشعبي، وما يجده القارئ من تغطية شاملة لأخبار ونشاطات الجماهيرية من المؤتمر الشعبي، واللجنة الشعبية بالمجلة والساحات الرياضية هذا ما أضفته للصحيفة وأعتبره إضافة مهمة لي لأنها أتاحت الفرصة لأن أقدم شيئاً لمجتمعي.