البستني امي في ذلك المساء الصيفي فستانا قصيرا وجوربا وحذاء انيقين. كنت على اعتاب السنة الخامسة من عمري، ماتزال اسناني لبنية… شعري البني الفاتح ينسكب على خدي ويغطي جبهتي… لم اكن ابالي بوجهتي.. اعلم اني سأذهب في نزهة مع والدي رحمه الله. كنا نقطن دارة على جادة خالد بن الوليد في الظهرة، بها حديقة وارقة و نافورة من الفسيفساء الأزرق (تمت مصادرتها بالقانون رقم 4)..
ركبت السيارة في الكرسي الامامي، اغطس في جلده فلا ارى شيئا، لكنني اشعر بالسيارة تلتهم الطريق بسلاسة دون عوائق، فتح ابي النافذة فتنسمت عبق البحر الساكن حتى الافق…
ركن السيارة، ونزلت، كان ابي يرتدي بدلة بربطة عنق، قميصه ابيض، واكمامه مثنية، ينزع جاكته ويأرجحه خلف ظهره وهو عالق بسبابته… سيجارته تتأرجح ايضا بين شفته، وهو يقول لي برفق.. هيا انزلي بنمشوا لدكان عمك عبد السلام الجزيري.
لم اهتم بقدر اهتمامي برؤية شارع الإستقلال وارضيته الحمراء اللامعة… اعرف هذا المكان ذي الاقواس والنسيم البارد جيدا، اتجول فيه مع امي التي تتركني اتزحلق على ارضيته ليغمرني المرح… هربت من يد ابي وانزلقت على السطح الاحمر الأملس.. نهرني وطلب مني ان اعود فورا… عدت…سرنا قليلا حتى رأيت رجلا طويل القامة يجلس على كرسي امام دكانه، تهلل وجهه وهو يرانا ليقول
– اووووووه كامل
تعانقا بقوة وهما يضحكان
وقفت لبرهة بين اقدامهم…
– سلمي على عمك سلام قدري
مددت يدي الى الاعلى فقبل ظهرها
دخل دكانه واحضر كرسي لأبي، بينما ظللت واقفة، دفعت برأسي الى داخل الدكان فرأيت عالم عجيب … الآلات الموسيقية تتزاحم داخله، الآلات البيانو السوداء والبني، القيثار والعود والكمنجة والقانون وحتى التشلو…وبعض الآلات النحاسية …لم اتعرف عليها انذاك، لكنني شعرت بها تجذبني اليها… دخلت ببطء دون ان يشعر بي أبي الذي كان يحكي مع صديقة ويضحكان… دخلت… وقفت امام آلة البيانو التي تعلوني بقليل، لمست اصابعها البيضاء والسوداء فوجدتها ناعمة.. ضغطت على الاصبع الابيض فوجدته ثقيلا، ضغطت باصابعي كلها دفعة واحدة فإذا بصوت غليظ يخرج عنها، ارتعبت وارتددت إلى الخلف، نهض والدي يحاول اخراجي من الدكان… فدافع عني عمي سلام… خليها تجرب.. مش بتشريلها بيانو؟
فجأة شعرت بنشوة… سيشتري لي أبي من هذا الدكان… ترى أي منها…لم اجرب الآلات الاخرى وان كنت قد نظرت اليها بشيء من التمعن… لكنني وقفت امام البيانو طويلا وجربت كل اصابعه، وشدتني الاصابع البيضاء اكثر من السوداء…
ثم اكتشفت ان له اقدام ثلاث، نزلت الى الأسفل وضغطت عليها بيدي فلم تصدر صوتا…
دخل عمي سلام امسك بعوده وريشته، دندن لوالدي قليلا، الذي كان مبتسما ينظر اليه من حافة نظارته الطبية وتزداد ابتسامته عرضا حتى رأيت كل اسنانه… كانا يتناقشان حول العزف ويذكران اسماء كثيرة…
هكذا دفع بي أبي الى عالم جديد ويده ترتب على كتفي، فجذبني بسحره وانغامه…
بعد يومين رن جرس بيتنا، سمعت امي تناديني.. عزة… عزة البيانو وصل
كان من الخشب البني اللامع المصقول، الماني الصنع، اتخذ موضعا في مدخل بيتنا وكل البيوت التي سكناها، تنقل معنا وعاش بيننا يشدو لنا ونطرب به.. نتحلق حوله معا لنغني ونعزف جميعا، بل واحيانا نعزف معا بعض القطع الموسيقية.. تعلمت العزف عليه باكرا وكانت لنا حصص للعزف صاحبتنا سنين طويلة.. نلت جائزة افضل عزف انفرادي على مستوى ليبيا في عام 1975 من خلال النشاط المدرسي، كانت كأس فضي اللون.. امسكت به بخيلاء وانا اعود من المدرسة على قدمي، وضعته امي على البيانو.
العزف على البيانو هواية رائعة، كنت امارسها خلال اليوم.. مكانه بمدخل بيتنا يجذبنا نحوه في الغدو والذهاب … عزفت لأهلي، واصدقاء ابي، واصدقاء اخوتي وصديقاتي… تلذذت الانغام باكرا وصنعتها بنفسي..
صدحت انغام عمي سلام قدري في بيتنا من خلال اشرطة مستديرة كبيرة الحجم، ثم اشرطة صغيرة مربعة.. كان غناؤه محترما ومطربا في آن واحد… تصاحبه احيانا جوقة من النساء المصريات بلكنتهن المختلفة عنه…
بعد سنوات وتحديدا في التسعينات ذهبت في زيارة الى دكان عمي سلام مجددا.. الشارع بدا غريبا اختفت الارضية الحمراء منه وتغير اسمه، …كان الشارع كئيبا لا صغار يتزحلقون تحت اقواسه التي سكنها الغبار …مزدحم بالسيارات، يقل فيه الراجلين.
لمحت عمي سلام من بعيد، فارع القامة حتى وهو جالس أمام دكانه، ساهما بعينيه الواسعتين، اقتربت منه، لم يتغير كثيرا وان فقد بعض من شعره الخشن الذي يغطي اذنيه، كان يضع رجلا على اخرى يرتدي لباسا انيقا … يقاوم الصمت و الجمود، متمسكا كالجندي المقاوم على اسوار التتار، بشدوه واغانيه القديمة.. لم ينجر للغة النغم الدخيل الذي يطبل لساسة ذاك الزمن او ينجر لأنغام ارتبطت بهم.. دكان عمي سلام شبه خال الا من بعض الآلات الوترية… لم يكن فيه بيانو واحد، اختفت الانغام من شارع الاستقلال.
عرفته بنفسي، استقبلني استقبالا حسن.. لم احكي له عن زيارتي تلك مع والدي وكيف انها اثرت في حياتي وددت لو استرسل عن قدرة ذاك البيانو في انه امدنا طوال حياتنا بالدفء والحب والمودة ورضا النفس.. وانه مايزال في مكانه يجمعنا…لم اقل شيئا… احترمت صمته في صخب ذاك الزمن…
رحم الله ابي، واطال الله في عمر عمي سلام قدري وامده بالصحة…
و سافر مازال… عيني تريده، سافر مازااااال عيني تريده، ايام زهيدة… ناس شالوه لأوطان بعيدة…
طرابلس 5.5. 2014